يوسف نويوار: واقع وآفاق تدبير الإسلام والمساجد والجمعيات الدينية الإسلامية بفرنسا

قال يوسف نويوار الباحث في قضايا الإسلام في فرنسا، إن تزايد الحضور الإسلامي في فرنسا يثير إشكالات قانونية مهمة كاحتلال الملك العام للصلاة في دولة جعلت من العلمانية دعامتها الأساسية وكذا الكثير من القلق والخوف من قبل غير المسلمين، كما أن هذا الموضوع لا يخلو من الاستثمار والتوظيف السياسي.

يوسف نويوار
- خريج مؤسسة دار الحديث الحسنية بالرباط.
- حاصل على الإجازة في علم الاجتماع من جامعة محمد الخامس بالرباط.
- حاصل على ماسترز فلسفة تخصص الأديان والمجتمعات من جامعة مشيل دو مونتانيMichel de Montaigne ببوردو.
- أستاذ عضو البعثة الثقافية المغربية من نونبر 2004 إلى يونيو 2014.
- يعدّ رسالة الدكتوراه في علم الاجتماع بجامعة Paul Valery بمونبوليي بإشراف مزدوج وشراكة مع جامعة السلطان مولاي سليمان ببني ملال في موضوع: تدبير الدين الإسلامي بفرنسا.
- باحث في موضوع الإسلام بأوروبا وفي فرنسا على وجه الخصوص.
- شارك في عدد من الندوات والمحاضرات التي تعنى بموضوع الإسلام بأوروبا، وكذا بتدريس اللغة العربية للناطقين بغيرها.
- منخرط في الحوار بين الأديان بجنوب فرنسا...

وأكد نويوار في حوار مع البوابة الإلكترونية لمجلس الجالية المغربية بالخارج أن المساجد في أوروبا كثيرا ما تكون مسرحا لصراعات وتطاحنات قد تنأى بدور العبادة الاسلامية عن الدور المنوط بها، مما ينعكس سلبا على صورة المسلمين بديار المهجر.

وأشار نويوار الذي يعدّ رسالة الدكتوراه في علم الاجتماع بمونبوليي في موضوع: تدبير الدين الإسلامي بفرنسا، إلى أن الشباب الفرنسي المسلم من أبناء الجيل الثالث والرابع من المهاجرين أو من أبناء الزيجات المختلطة ينزعجون من سؤال الادماج، إذ يعتبرونه نوعا من التمييز الغير مرغوب فيه.

وأوضح المتخصص في الأديان وعلم الاجتماع أن من أبرز التحديات التي تواجه الحضور الإسلامي بفرنسا تتمثل في إشكالية تربية وتأطير الشباب المسلم والمحافظة على هويته المتعددة الأوجه؛ مشيرا إلى ضرورة الانتباه إلى المسارات التي تجذب الشباب نحو التطرف والانغلاق أو نحو الانحراف والضياع ورد الاعتبار للتأطير العائلي...

من ناحية أخرى لاحظ نويوار أن المسلمين واعون بأهمية العمل والاشتغال داخل إطار اللائكية التي تضمن لهم أفقا رحبا ومساواة مع جميع الأديان داخل المجتمع الفرنسي.

كما دعا إلى ضرورة معرفة ينابيع الخوف عند الأوروبيين من الإسلام لرأب الصدع وزيادة الوعي بأهمية ابتكار اجتهادات علمية وعملية لتصحيح صورة الإسلام في أعين الغرب، مؤكدا أهمية السعي الى الحوار والتواصل والخروج من جو العزلة المهيمن على بعض المسلمين في ضواحي المدن الأوروبية وتشجيع الانفتاح على الآخر بثقة في النفس واحترام لكل طرف.

هيأة التحرير

وفيما يلي نص الحوار:

المساجد والجمعيات الدينية الإسلامية بفرنسا: الواقع والتحديات

تعتبر قضية المساجد والجمعيات الدينية الإسلامية بفرنسا من القضايا الهامة التي تستأثر بالاهتمام في أوساط المسلمين بفرنسا، وكذا باهتمام السياسيين والإعلاميين والأكاديميين وباقي مكونات المجتمع الفرنسي. ما هي في رأيكم أهم الإشكالات التي تندرج تحت هذه القضية؟
هناك إشكالات كثيرة، من أبرزها ما يلي: قلة دور العبادة الإسلامية، وغياب سلطة دينية يمكن أن تضطلع بدور مشابه للكنيسة الرومانية عند المسيحين، وإشكالية تكوين الأئمة والأطر الدينية الإسلامية، وإشكالية تمويل المساجد والجمعيات الدينية، وإشكالية تمثيلية المسلمين داخل المساجد وفي المؤسسات والهيئات التي تعنى بتدبير الاسلام بفرنسا وغيرها.

كيف تُدار المساجد في فرنسا؟
المساجد في فرنسا تُـدار من خلال جمعيات دينة إسلامية تؤسس في الغالب لهذا الغرض وتخضع لقانون اللائكية الفرنسية الشهير الصادر في دجنبر 1905. هذا القانون يسمى كذلك بقانون "فصل الكنيسة عن الدولة" ويعد بمثابة التربة التي ينمو فوقها كل تنظيم ديني بفرنسا والدعامة الأساس لعلاقة الدولة بالأديان. بموجب هذا القانون تضمن الجمهورية الفرنسية حرية العقيدة لجميع المواطنين لكنها في الوقت ذاته لا تمول ولا تتبنى أي دين، فالدولة لا دين لها.

في هذا الإطار، كيف تتمكّن المساجد من تمويل نفسها في غياب التأطير الديني والمالي للدولة ومنع أي تمويل خارجي؟
تقتصر موارد المساجد والجمعيات الإسلامية على الهبات العينية التي يجود بها المسلمون المقيمون فوق التراب الفرنسي. وهذا يفسر، بشكل كبير، المدةوهذا يفسر، بشكل كبير، المدة الطويلة التي يقضيها مسلمو فرنسا بين فكرة إحداث مسجد بجماعة أو مدينة معينة وبين خروجه إلى حيز الوجود. حسب الدكتور محمد الموسوي1 لا يتجاوز عدد المساجد بفرنسا 2300 مسجدا، وهو عدد ضئيل لا يكفي لتلبية الحاجيات الروحية للمسلمين الذين لا يقل عددهم عن خمسة ملايين2، مما يضطرهم في بعض الأحيان (خصوصا أيام الجُمع وعيدي الفطر والأضحى) إلى التدفق خارج قاعة الصلاة وافتراش الشوارع والأرصفة المحيطة بها. ربما قد يبدو هذا المشهد مألوفا لشخص يقطن بلدا إسلاميا، لكنه في الحقيقة يثير إشكالات قانونية مهمة بفرنسا كاحتلال الملك العام للصلاة في دولة جعلت من اللائكيةlaïcité دعامتها الأساسية وكذا الكثير من القلق والخوف من قبل غير المسلمين، حيث يرى البعض منهم في هذه الكثرة و هذا التجمع احتلالا مُقـنَّعا وتهديدا لفرنسا "المسيحية". كما أن هذا الموضوع لا يخلو من الاستثمار والتوظيف السياسي ولعل الخرجات الإعلامية وتصريحات اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبن Marine LE PEN خير شاهد على ذلك.

ما هي في رأيك أبرز المشاكل التي تعاني منها المساجد والجمعيات الإسلامية في فرنسا، والتي تحول دون القيام بدورها داخل الجالية والمجتمع؟
من الملاحظات التي وقفت عليها من خلال مقامي لقرابة عشر سنوات بالديار الفرنسية والتي يمكن تعميمها أيضا على عدد من الدول المجاورة، تتمثل في أن هذه المساجد كثيرا ما تكون مسرحا لصراعات وتطاحنات قد تنأى بدور العبادة الاسلامية عن الدور المنوط بها، مما ينعكس سلبا على صورة المسلمين بديار المهجر3؛ إذ إن إطلالة سريعة على واقع الجمعيات الدينية الإسلامية بفرنسا وطرق تسييرها تكشف بسهولة عن غياب الديمقراطية داخل هذا الفضاء. الأمر الذي يؤثر بشكل مباشر على التداول السلمي لعملية التسيير والتدبير الجمعوي، كما أن تمركز السلطة في يد أفراد قليلين يحتكرون المسؤولية لعقود يخلف جوا من التشنج والاحتقان يتحول أحيانا إلى صراع مفتوح بين فصائل وتيارات مذهبية أو عقدية أو عشائرية أو قطرية...الملاحظ أيضا أن غالبية المسؤولين بالمساجد ينتمون إلى الجيل الأول والثاني للمهاجرين ولهم من الغيرة على الإسلام الشيء الكثير لكن بضاعتهم في فن التسيير والتدبير والثقافة القانونية والسياسية ضعيفة. البعض منهم لا يجيد حتى لغة البلد الذي يعيش فيه مما يجعل المسجد عرضة لفتن واضطرابات تبعده عن الدور المنوط به 4. لكن يجب أن لا يغيب عن أنظارنا- من باب الإنصاف- التنويه بتجارب ناجحة ومشرفة لبعض المساجد التي تضم كفاءات وطاقات تؤمن بالديمقراطية والحكامة الجيدة مما يساعد على خلق مناخ ملائم لتطوير خدمات لفائدة مسلمي الحي أو المدينة تُعنى بتأمين الجانب الروحي التعبدي كإقامة الصلوات، والإشراف والتنسيق في الأعياد خصوصا عيد الأضحى، وتيسير عملية الحج، وكذا نقل الموروث الثقافي إلى الأجيال القادمة المتمثل أساسا في تدريس اللغة العربية و تعاليم الدين الإسلامي الحنيف.

YN2

هل هناك جهودٌ تبذل للتغلب على هذه المشاكل؟
يمكن أن نذكر في هذا الصدد اضطلاع الدول الاصلية للمهاجرين بدور هام في عملية تدبير المساجد والجمعيات الدينية الاسلامية بفرنسا. المغرب والجزائر وتركيا أكثر حضورا من غيرهم في هذا المجال باعتبار توفر كل بلد من هذه البلدان على جالية مهمة بفرنسا يسعى لتأطيرها والاستجابة لحاجياتها الروحية والثقافية. والتجربة المغربية رائدة ومتميزة في هذا المجال باعتبار دور مؤسسة إمارة المؤمنين وكذللك باعتبار تعدد مؤسسات الدولة المغربية المساهمة في عملية التدبير. وهذه المؤسسات توفر إمكانات مادية وبشرية مهمة لتأطير الجالية المغربية والحفاظ على النموذج المغربي للتدين المبني أساسا على العقيدة وهذه المؤسسات توفر إمكانات مادية وبشرية مهمة لتأطير الجالية المغربية والحفاظ على النموذج المغربي للتدين المبني أساسا على العقيدة الاشعرية والمذهب المالكي والاعتدال في الممارسة الدينية. لكن الأمر لا يخلو من بعض المزايدات السياسية التي قد تعيق أو تشوش على هذه العملية.

مسلمو فرنسا وإشكاليات الهوية والاندماج

عندما يطرح موضوع الإسلام في فرنسا تطرح معه دائما إشكالية الهوية والانتماء والاندماج. كيف يمكن الخروج من هذه الثنائيات؟ أي كيف يمكن أن يكون المسلم مندمجا في بلد الإقامة ومحافظا على هويته وانتمائه الديني والثقافي؟
لم تطرح مواضيع الهوية والاندماج كمشكل في النقاش العمومي بفرنسا إلا مطلع الثمانينات من القرن الماضي حيث استأثرت منذ ذلك الحين باهتمام متصاعد؛ حيث كان لقرار ايقاف الهجرة الرسمية سنة 1974 وتعويضها بسياسة التجمع العائلي الأثر البالغ في تغيير التركيبة الاجتماعية للمهاجرين المسلمين. فبعد التحاق الزوجات والأولاد بالديار الفرنسية وجد العمال المهاجرون أنفسهم أمام مسؤوليات جديدة. إذ بالإضافة إلى توفير الامكانات المادية للأسر الحديثة العهد بفرنسا، عمل الآباء على الانخراط أكثر في تربية الأولاد والاهتمام بنقل التراث الثقافي والديني للأجيال الجديدة. كما أن حلم الهجرة المؤقتة سيتلاشى مع مرور الوقت وسيفضل هؤلاء المهاجرون الاستقرار النهائي بديار المهجر لاعتبارات اقتصادية واجتماعية بالأساس. إذن أمام تنامي الحضور الاسلامي وازياد أعداد أبناء المهاجرين عملت فرنسا على بلورة سياسات لإدماجهم كلية في المجتمع الفرنسي. لكن سرعان ما ستطفو بعض المشاكل تتعلق بهوية المهاجرين المسلمين. ستحظى بعض القضايا بالاهتمام أكثر من غيرها خاصة تلك التي لها اتصال بالدين الاسلامي حيث ستختلف الرؤى والمواقف بشأن حلها.
كيف تنظر إلى مسألة اندماج الجاليات المسلمة داخل المجتمعات الأوروبية؟

غالبا ما يُتّهم المهاجرون المسلمون بأنهم مستعصون عن الذوبان داخل هذه المجتمعات، عكس نظرائهم المسيحيون، أو اللادينيون ...الذين هاجروا مثلا من روسيا أو بولونيا أو البرتغال أو جنوب إفريقيا إلى فرنسا، حيث يلاحظ أنهم انصهروا كلية في المجتمع الفرنسي، ومنهم من تقلد مناصب عالية في الدولة الفرنسية، مثال الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي Nicolas SARKOZY خير شاهد في هذا الباب. هذه المقاربة تختزل صراعا خفيا بين من يعتبر هوية المسلمين متحجرة غير قابلة للاندماج في مجتمع أوروبي حداثي لائكي ذي خلفية تاريخية مسيحية وبين من ينظر إلى هوية المهاجرين المسلمين وأبنائهم على أنها متعددة الأبعاد والواجهات، غنية المصادر والمنابع ساهمت في تشكيلها العديد من العوامل ولا يمكن بحال تجزئتها أو اختزالها فقط في الإسلام أو العروبة أو البلد الأصل... في هذا المقارنة جواب لسؤال كثيرا ما طرح على المسلمين بفرنسا: ما هي هويتك الحقيقية؟: هل تشعر أنك فرنسي أو مسلم؟ هل تشعر أنك فرنسي أو عربي؟ وكأن هناك انتماء واحدا مسيطرا يسمو على الانتماءات الأخرى، مترسبا في أعماق الشخصية يجب إعلانه بفخر، ووحده يشكل كنه وحقيقة الإنسان. الهوية ليس لها بعد واحد، بل هي كلّ لا يتجزأ وليس هناك تراتبية بين مختلف مكوناتها. الهوية مزيج من عناصر مختلفة (الجنس، الاسرة، اللغة، الدين، التاريخ، الأقران،) تتكامل فيما بينها وتساهم في تشكيل الهوية بجرعات متباينة من شخص لآخر.

إذا كانت الأجيال الأولى من المهاجرين تتفهم دعاوى الاندماج في المجتمعات الأوروبية، كيف تتلقف الأجيال الجديدة هذه الدعاوى؛ خاصة وأنها قد ولدت في هذه المجتمعات وتعتبر نفسها مواطنين قبل أي شيء آخر؟
الشباب الفرنسي المسلم من أبناء الجيل الثالث والرابع من المهاجرين أو من أبناء الزيجات المختلطة ينزعجون من سؤال الادماج، إذ يعتبرونه نوعا من التمييز الغير مرغوب فيه، يجيب ي.د (36 سنة من أصل مغربي يعمل ببلدية مونبوليي) حينما سألته هل تشعر بأنك مندمج في المجتمع الفرنسي: "ولِمَ لا...! لقد ولدت هنا وكبرت هنا وأعمل هنا، صحيح أني تزوجت من مغربية لكني لا أجيد العربية...إنني فرنسي نقطة إلى السطر". نلمس بوضوح في هذه الاجابة حساسية هذا الموضوع لدى أبناء المهاجرين الذين سئموا من اعتبارهم كمشكل يستدعي الاهتمام به وبلورة سياسات خاصة تعنى بدمجهم في المنظومة الكلية للمجتمع الفرنسي. التركيز في نظرهم على ثنائية الهوية والاندماج من قبل الإعلام والسلطات العمومية هو تركيز مفتعل ومصطنع (un faux débat!)، ليس له ما يبرره في الوقت الراهن. المشاكل الحقيقية التي يعاني منها الشباب المسلم لا تكتسي عباءة دينية أو عرقية أو لغوية أو هوياتية بقدر ما هي مشاكل اقتصادية واجتماعية وتعليمية تخص رفع التهميش والقضاء على البطالة والهدر المدرسي.... ولعل انتفاضة الضواحي5 التي شهدتها فرنسا خريف 2005 خير شاهد في هذا الباب.
الشباب المسلم في فرنسا يشعر في الغالب بهويته المتعددة الأبعاد لكنه لا يستثمر هذا الغنى ولا يوظفه بشكل جيد. وبالتالي يجب الخروج من هذه "السلبية المدانة"6، على حد تعبير طارق رمضان، التي سادت في الماضي ورفع تحديات الحاضر بشجاعة.
ما هي في رأيك أبرز التحديات التي تواجه الشباب المسلم في فرنسا؟
لعل من أبرز هذه التحديات إشكالية تربية وتأطير الشباب المسلم بفرنسا والمحافظة على هويته المتعددة الأوجه. حيث يجب الانتباه إلى المسارات التي تجذب الشباب نحو التطرف والانغلاق أو نحو الانحراف والضياع ورد الاعتبار للتأطير العائلي الذي أصبح غير قادر في الكثير من الأحيان على تتبع الأبناء في مجتمع الإقامة وتحصين مكتسباتهم الدينية واللغوية والثقافية. التربية الاسلامية في أوروبا يجب أن تأخذ بعين الاعتبار محيطها الغربي وتشجع الشباب المسلم على الانخراط والمساهمة في الثقافة الأوروبية وتَمَلُّكِها من خلال التشجيع على الانتاج والإبداع في مجالات الموسيقى والسينما والأدب والفلسفة والانفتاح على المساهمات الفكرية المختلفة. هذا الانفتاح سيولد من دون شك الثقة في نفوس الشبان المسلمين وسيمكنهم من حضور وازن ومسؤول ومنسجم داخل مجتمعاتهم الأوروبية.

مسلمو فرنسا وتحدّي العلمانية

ما هي التحديات التي تطرحها اللائكية الفرنسية بصيغتها الحالية على الحضور الإسلامي بفرنسا؟ علما أن العلمانية بشكل عام قد أفادت المسلمين كثيرا في أوروبا.
ربما يجب طرح السؤال بطريقة أخرى فنقول بالأحرى ما هي التحديات التي يطرحها الحضور الاسلامي على اللائكية الفرنسية3؟ على اعتبار أن الوجود الإسلامي بفرنسا والنقاش حوله كمشكل في الفضاء العمومي حديث نسبيا إذا ما قورن بقانون اللائكية الفرنسي الصادر في 1905 والذي يعد ثمرة "صراع" طويل مع الكنيسة الكاثوليكية تمتد جذوره لعقود قبل ذلك.
لقد صدرت مؤخرا وثيقة رسمية عن المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، سميت "بميثاق المواطنة لمسلمي فرنسا من أجل العيش المشترك"8. الوثيقة تأتي بعد عشر سنوات من تأسيس المجلس، وتعتبر في نظري حدثا مفصليا في تاريخ الممارسة الدينية الإسلامية بفرنسا، حيث تشير لمستوى النضج في تدبير الإسلام بفرنسا وتحدد الموقف الصريح للمجلس "الممثل لمسلمي فرنسا" من عدد من القضايا الشائكة التي أثيرت خلال السنوات والعقود الأخيرة وفي مقدمتها: اللائكية، والحجاب، والإرهاب، والحق في التصويت، والاندماج، والمساواة، والتغذية الحلال، والاستنساخ، والإسلاموفوبيا وغيرها. للأسف لم يأخذ هذا الاعلان حقه من النقاش والتداول في المنابر الاعلامية أو حتى في أوساط المسلمين أنفسهم.

جاء في مقدمة هذا الميثاق: "الإسلام وإن كان عقيدة واحدة فإنه متعدد في تاريخه وتجاربه. يعتمد في فرنسا كمبدأ مؤسس احترام قوانين الجمهورية التي تمكن من تحقيق العيش المشترك وتؤمن الانفتاح المنسجم لرجال ونساء هذا البلد (...) مسلمو فرنسا يتطلعون لوحدة الجميع، دون تمييز على أساس العرق أو الوطن أو اللغة أو الولاء لمذاهب أو لفرق. وهم يعتبرون أن اللائكية مكسب أساسي للعيش معا دون تمييز بين المواطنين (....) الإسلام منسجم تماما مع قوانين الجمهورية. لا حاجة لنصوص جديدة أو تكيفات تشريعية أو اجتهادات فقهية. يجد الإسلام جميع مرجعياته في الحقوق المشتركة (.....) مسلمو فرنسا يتطلعون لممارسة دينهم في إطار يضمن لهم الكرامة والاحترام". وقد خصص الفصل الأول من الميثاق للحديث عن اللائكية والتذكير على أن هذا المبدأ يجعل الجمهورية الفرنسية محايدة تجاه الأديان ومحترمة لحرية المعتقد. وكنتيجة لذلك تضمن فرنسا لجميع المواطنين حرية الاعتقاد أو عدم الاعتقاد وكذا حرية الممارسة الدينية وعدمها.

ما القراءة التي تقدمونها لـ "ميثاق المواطنة لمسلمي فرنسا من أجل العيش المشترك" بخصوص علاقة مسلمي فرنسا باللائكية؟
نستشف من هذا الميثاق أن مسلمي فرنسا متشبثون باللائكية كإطار مرجعي يضمن ممارسة الشعائر الدينية وتحقيق الأمن الروحي للمسلمين في إطار قوانين الجمهورية، دون تمييز وعلى قدم المساواة مع باقي الديانات الأخرى. لكن على أرض الواقع الممارسة الدينية الإسلامية لا تخلو من بعض المشاكل.

هل من أمثلة بخصوص هذه المشاكل المرتبطة بالممارسة الإسلامية اليومية؟
فباعتبار تأخر ظهور الإسلام في الساحة الفرنسية لا يتوفر المسلمون على عدد كاف من المساجد. عندما صدر قانون 1905 الذي يمنع الدولة من تمويل الأديان وبناء دور العبادة، لم تكن موجودة بفرنسا آنذاك سوى اليهودية والنصرانية بشقيها الكاثوليكية والبروتستانتية، الذين كانوا يتوفرون على عدد كاف من البيعات والكنائس وما يزالون. ويسعى المسلمون منذ مدة لتدارك هذا النقص في دور العبادة الاسلامية بالاعتماد على مجهوداتهم الذاتية في الغالب الشيء الذي يؤدي إلى طول المدة بين فكرة إنشاء مسجد وخروجه إلى أرض الواقع. في الوقت ذاته يثير ظهور الاسلام في الفضاء العمومي من خلال المساجد والصوامع وارتداء المرأة للحجاب أو حتى الملابس التقليدية كالجلباب والعباية وغيرها قلق فئات عريضة من الفرنسيين الذين يرون في هذا الظهور غزواَ مقنعا وتهديدا للائكية الفرنسية. في ظل هذا المناخ نلاحظ أن التعليم الديني الاسلامي الخاص كذلك يجد صعوبة كبيرة في شق طريقه. لا توجد حاليا سوى بعض المؤسسات التي تعنى بهذا النوع من التعليم بفرنسا. إذا كان الآباء قد رفعوا خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي تحدي بناء المساجد ودور العبادة الاسلامية، فإن العشرية القادمة ستشهد بالخصوص اهتماما متزايدا بالتعليم الاسلامي الخاص وتيسير الولوج إليه من طرف مسلمي فرنسا.
والملاحظ أن المسلمين واعون بأهمية العمل والاشتغال داخل إطار اللائكية التي تضمن لهم أفقا رحبا ومساواة مع جميع الأديان داخل المجتمع الفرنسي. هذه التعبئة يجب أن تتجاوز الاعتناء بالجوانب الدينية التعبدية وتطمح للانخراط أكثر في الميادين الاجتماعية والسياسية والثقافية والفنية بفرنسا.

المسلمون في أوروبا وظاهرة الإسلاموفوبيا: الواقع وسبل التجاوز

كيف تقيَّم ظاهرة تنامي العداء للإسلام والمسلمين أو ما بات يعرف الإسلاموفوبيا؟ وهل يتحمل المسلمون جزءا من المسؤولية؟
إذا كان مصطلح الإسلاموفوبيا حديثا نسبيا في التداول المعرفي لعلاقة المسلمين بالغرب، بحيث نجده بكثرة في الأدبيات والتقارير التي وثقت لأحداث ما بعد 11 شتنبر، فإن ظاهرة الخوف من الإسلام أو التخويف به قديمة جدا، ونجد لها جذور وأمثلة على طول التاريخ الطويل الذي جمع المسلمين بالغرب.
وبكيفية منتظمة يشار إلى الإسلام ويقدم على أنه دين غير منسجم مع قيم الديمقراطية واللائكية، ويتهم على أنه تهديد للهوية الفرنسية. ويعاني المسلمون اليوم في فرنسا وعدد من الدول الغربية من الصورة السلبية للإسلام في وسائل الإعلام المختلفة التي تسعى لتغطية الأحداث المرتبطة بالإسلام بشغف كبير، يشجعها في ذلك إقبال الجمهور وتحفيز السياسيين لهاته التغطية وتوظيفهم لها في النقاشات الدائرة حول الهجرة، الادماج، الهوية، الإرهاب...أو استثمارها للتمويه على بعض المشاكل الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية. ونلاحظ في هذا الصدد التركيز الانتقائي على بعض القضايا قصد معرفة موقف الاسلام منها، أخص بالذكر مواضيع حقوق المرأة والحرية الدينية والديمقراطية والعَـلمانية والإرهاب... وانصب الاهتمام أيضا على الأحداث المؤلمة والأنباء المفجعة التي تصور الإسلام كمشكل دائم (بعدما كان خطرا داهما في الماضي) يتهدد الغرب، أو تلك التي تحكي قصص الضعف والتشرذم في صفوف المسلمين... وفي المقابل نجدها تغض الطرف عن صور مشرقة ونماذج ناجحة للمسلمين في مجالات شتى؛ ففي دراسة حديثة أجراها معهد IPSOS9 لفائدة جريدة لوموند الفرنسية10 الصادرة بتاريخ 24 يناير2013، فإن الدين الإسلامي يقابل برفض وتخوف كبيرين من طرف المجتمع الفرنسي: 39 % من السكان يرون أن الإسلام ديانة غير متسامحة و74 % يرون أنها غير منسجمة وقيم الجمهورية الفرنسية. يبرز المبيان أسفله تطور أعمال الخوف والتمييز ضد المسلمين بين سنتي 2006 و2010، حيث نلاحظ ارتفاع ملحوظ في عدد هذه الممارسات سواء بالنسبة للأشخاص أو المؤسسات.

graphique

ما هي في رأيك أهم المصادر التي تُغدي المتخيل الغربي والفرنسي على وجه الخصوص حول الإسلام؟
إذا كانت الهوية الفرنسية تجد مرجعتيها أساسا في التاريخ المسيحي واللغة الفرنسية واللائكية ومفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان المستمدة من الثورة الفرنسية... فإن الاسلام يمثل بامتياز ذلك الآخر الذي يقابل الأنا الأوروبي. هذه النظرة تجعل من المسلم ذلك الدخيل الغريب عن الثقافة والبيئة الأوروبية.
أظن أن معرفة ينابيع الخوف عند الأوروبيين من الإسلام ستساهم في رأب الصدع وزيادة الوعي بأهمية ابتكار اجتهادات علمية وعملية لتصحيح صورة الإسلام في أعين الغرب. وإني لأعتقد جازما أن الجزء الأكبر في عملية التصحيح هاته ملقى على عاتق المسلمين أنفسهم وعلى قدرتهم على التصالح مع ذاتهم (مع التاريخ المكتوب أو المحظور) والاعتراف بوجود سلبيات في بعض مواقفنا وسلوكياتنا تساهم بطريقة مباشرة في تشويه صورة الاسلام. من الصعب أن نقنع الغرب بجمالية الاسلام وبقيم العدل من الصعب أن نقنع الغرب بجمالية الاسلام وبقيم العدل والمساواة والتسامح التي يزخر بها هذا الدين في حين يجدها غائبة عن سلوكياتنا وعن حياتنا اليومية! يجب السعي الى الحوار والتواصل والخروج من جو العزلة المهيمن على بعض المسلمين في ضواحي المدن الأوروبية وتشجيع الانفتاح على الآخر بثقة في النفس واحترام لكل طرف. ولعل مبادرة أيام مفتوحة للمساجد11 في وجه غير المسلمين خير مثال يمكن التنويه به في هذا الباب.
في هذا الإطار، حبذا لو حدثتنا عن أبرز الإجراءات والأعمال التي يقوم بها مسلمو فرنسا لتجاوز خطاب الكراهية ولمواجهة ظاهرة الإسلاموفوبيا وتصحيح الصورة النمطية للمسلمين في الغرب؟
لوحظ بعد سنة 2010 نوع من التعبئة والدينامية في صفوف مسلمي فرنسا وممثليهم الذين استشعروا خطر هذه الظاهرة على واقع المسلمين ومستقبل أبنائهم. ويمكن القول إن مكافحة ظاهرة الإسلاموفوبيا قطعت أشواطا لا بأس بها بفرنسا؛ فبالإضافة إلى التنسيق المباشر والمتواصل بين المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية ووزارة الداخلية في هذا الموضوع12. برزت بعض الهيئات جعلت من هذا الموضوع هدفها ومحور كل أنشطتها. أخص بالذكر مرصد الإسلاموفوبيا L'Observatoire de l'Islamophobie وهو مرصد أحدثه المجلس الفرنسي للديانة الاسلامية في 23 يونيو 2011 لإحصاء وتتبع كل أشكال التمييز والجرائم التي تستهدف المسلمين فوق التراب الفرنسي. وكذا الاتحاد ضد الإسلاموفوبيا بفرنسا Collectif contre l'Islamophobie en France وهو عبارة عن جمعية فرنسية نشيطة تهدف إلى مكافحة التمييز والأحكام المسبقة والاعتداء على المسلمين بسب انتمائهم الحقيقي أو المفترض للديانة الإسلامية. كما تقدم للضحايا مساعدة قانونية ونفسية إن اقتضى الأمر وتسهر كذلك على إحصاء وتصنيف وتتبع حالات التمييز ضد المسلمين.

 هيأة التحرير

هوامش الحوار:

1 أستاذ جامعي بفرنسا من مواليد مدينة فيكيك المغربية سنة 1964، انتخب كعضو بالمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية بفرنسا منذ إحداثه سنة 2003، كما عمل نائبا لاتحاد مسلمي فرنسا المحدث سنة 2006، وفي يونيو 2008 تم انتخابه رئيسا للمجلس الفرنسي للديانة الاسلامية وهو المنصب الذي شغله إلى غاية يونيو 2013. يرأس حاليا منظمة حديثة التأسيس: اتحاد مساجد فرنسا.

2 لا توجد إحصائيات رسمية حول عدد المسلمين بفرنسا ذلك أن القانون الفرنسي يمنع أي إحصاء على أساس ديني أو عرقي أو ما شابه. لكن يوجد شبه توافق بين عدد من الباحثين والديمغرافيين حول رقم خمسة ملايين.

3 ولأهمية الموضوع وقيمته العلمية شاركت بتنسيق مع بعض مسؤولين بالمجلس الجهوي للديانة الاسلامية بجهة لانكدوك روسيان (جنوب فرنسا) في اعداد وتسيير ندوة بعنوان: إشكالية تدبير المساجد والجمعيات الدينية الاسلامية بفرنسا. وذلك بمدينة نيم الفرنسية بتاريخ مارس 2012.

4 حساسية هذه الظاهرة تقتضي دعوة الأكاديميين والفقهاء والباحثين في علم الاجتماع الديني وفي سوسيولوجيا المنظمات لتحليل هذه الإشكالية واقتراح الحلول المناسبة لمعالجتها، ولم لا إصدار دليل للمساجد والجمعيات الدينية الإسلامية بفرنسا.

5 Olivier Roy، Intifida des banlieues ou émeutes de jeunes déclassés ? voir : www.diplomatie.gouv.fr/fr/IMG/pdf/0501-ROY-FR-2.pdf

 

6 Tariq Ramadan، Mon intime conviction، presses du Châtelet، 2009.

7 مفهوم فلسفي وسياسي وقانوني يهدف إلى تيسير العيش في مجتمع متعدد الأديان والثقافات من خلال تحييد تدخل الدولة في تدبير وتمويل الأديان مع الحرص على حرية المعتقد، حيث تعمل الدولة اللائكية على ضمان حرية المعتقد وحرية التعبير لكل فرد من المجتمع كما أنها لا تفضِّل أي دين ولا تفاضل بين الأديان.

8 CFCM، Convention citoyenne pour le vivre ensemble، juin 2014. Voir le lien du conseil français du culte musulman : http://www.lecfcm.fr/?page_id=3704

9 Ipsos France est une société du groupe Ipsos، adresse : 35 Rue du Val de Marne، 75013 Paris/ tél : 01 41 98 90 00 . Depuis 2011، elle est leader des études par enquêtes sur le marché français. Voir : www.ipsos.fr/

Visité le (28/07/2014).

10 http://www.lemonde.fr/societe/article/2013/01/24/la-religion-musulmane-fait-l-objet-d-un-profond-rejet-de-la-part-des-francais_1821698_3224.html ) visité le: 17/10/2014).

11 مبادرة تلقائية أطلقت في عدد من المساجد بفرنسا، حيث تخصص جمعية المسجد يوما معينا للراغبين في زيارة مرافق المسجد لغير المسلمين والتعرف على تعاليم الدين الاسلامي. وقد تتخلل أنشطة اليوم ورشات في الخط العربي أو محاضرات عن الفن الإسلامي وغيرها.

12 وقّع المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية في 17 يونيو 2010، مع وزارة الداخلية اتفاقية إطار من أجل تتبع وإحصاء كل الأفعال المعادية للمسلمين بفرنسا.

 

 

الصحافة والهجرة

Google+ Google+