عمل عبد الرحمان العيساتي، مغربي مستقرّ بهولندا، على إتباع حدسه طيلة السنوات الـ56 التي قضاها بين الفضاءين الجغرافيّين الإفريقيّ والأوروبيّ، دون إغفال تطعيم هذا الحدس بما توفر من نصائح يقدّمها له محيطه هنا وهناك، مُفلحا، تحت مظلّتَي البحث الأكاديميّ في التواصل والفعل الثقافي الهوياتي المغربيّ الأمازيغيّ، وما يتحقق من تقاطعات بين هذا وذاك، في نهج مسار حياتيّ متميّز، أسّس له بالمغرب قبل أن يحقق له الإشعاع بالأراضي المنخفضة، على أمل أن يختم أوج عطائه بمساهمات في تنمية بيئته الأصل.
ثلاثون سنة من النشأة
رأى عبد الرحمان العيساتي النور مطلع العقد السادس من القرن الماضي، وتحديدا سنة 1960 بتراب "ميضار الأعلى" التابعة لإقليم الناظور، والتي تتواجد حاليا ضمن النفوذ الترابي لعمالة إقليم الدريوش المستحدث قبل سنوات. وبمِيضَار شرع العيساتي في تلقِّي تعليمه الأساسيّ، ثم استكمله بمدينة النّاظور، وتحديدا بثانويّة محمّد بن عبد الكريم الخطّابي الشهيرَة، عقب موسم دراسيّ وحيد عابر بمدينة وجدَة.
بدَا ميل عبد الرحمان العيساتي بجلاء إلى اللغة والتواصل منذ أولى أعوام تمدرسه، وأخذ ذلك في البروز مع توالي السنين وانتقاله من مستوى تعليمي إلى آخر، فكان له أن انتقل، ما بعد نيل باكالوريا أدبيّة سنة 1978، إلى جامعة سيدي محمّد بن عبد الله بفاس، وتخرّج فيها بإجازة في اللغة الإنجليزيّة وآدابها سنة 1982.
في العام نفسه، عاد العيساتي إلى ثانويّة محمد عبد الكريم الخطابي بالنّاظور أستاذا للغة شكسبير، لكنّ تعطّشه للتحصيل ورغبته في تطوير مداركه لم يوقفه عند هذا الحدّ؛ إذ واصل مشواره التكوينيّ بنيل دبلوم الدراسات المعمقّة في تخصّصه الأكاديميّ نفسه، ثمّ ولج عوالم التدريس العالي والبحث العلميّ من بوابة كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بجامعة ابن طفل بمدينة القنيطرة، بين عامي 1986 و1990.
آفاق أرحب
بالوصول إلى العِقد الأخير من الألفيّة الثانية، كان عبد الرحمان العيساتي قد وعى بأنّ رحلة بحثه عن ذاته ينبغي أن تستمرّ خارج حدود وطنه المغرب. ولتحقيق ذلك، استثمر سريان مفعول اتفاقيّة بين الرباط وأمستردام تشجّع الباحثين من المملكتين على مواصلة اهتماماتهم الأكاديميّة وتعميقها بكل من الأراضي المنخفضة والمغرب، فكان له أن انتقل إلى القارّة الأوروبيّة لتأسيس مرحلة جديدة من عيشه.
"لم أكن ألبِّي رغباتي العلميّة بالتواجد في شعبة اللغة الإنجليزيّة بجامعة القنيطرَة .. صحيح أننّي كنت مرتاحا بتدريسي الطلاّب لـ8 ساعات في الأسبوع فقط، وسنة حسمي في خوض تجربة الهجرة شهد ترسيمي كأستاذ بالجامعة، لكنّ هذين المعطيَين لم يرُقانِي بفعل التأثير السلبيّ الذي طال عشقي للبحث في مجال تخصّصي .. كما أنّي لن أكشف سرّا إذا ما اعترفت بكون نفور نفسيّ من أجواء البلد، خلال تلك المرحلة، شجّعني بدوره على الانتقال صوب الديار الهولنديّة .. وهنا أودّ التشديد على أنّي أتحدّث عن مغرب التسعينيات من القرن الماضي، وليس وضع المغرب كما هو اليوم"، يقول العيساتي قبل أن يسترسل: "لقد كانت هجرتي عن وعي بوجوب البحث عن الأفضل، لا لكوني لم أجد ما أفعله في بلدي".
العالَم الجديد
توجّه عبد الرحمان العيساتي سنة 1991 نحو جامعة "نايْمِيخْن" الهولنديّة، ملتحقا بمنصب دكتوراه يمكّنه من مواصلة مشواره التعليميّ العالي بمعيّة الانفتاح على عوالم البحث بهذا "العالم الجديد"، فكان له أن تخرّج دكتورا من المؤسسة عينها بعد مضيّ خمس سنوات على التحاقه بها.
وعن المرحلة الموالية، يقول العيساتي، من خلال لحظة استحضار لنوستالجياه: "انتقلت، بعد نيل الدكتوراه من جامعة نَايْمِيخْن، إلى جامعة تِيلْبُورْغْ التي درّست بها مزاوجا بين تخصّصي القديم المرتبط باللغة الإنجليزيّة، من جهة، والانفتاح على التواصل باللغتين الأمازيغيّة والدارجة المغربيّة، من جهة ثانيّة، بفعل سريان مقتضيات برنامج أكاديميّ يحمل تسميّة (العربيّة في أوروبا)".
"عمل أستاذ هولنديّ على بذل مجهود كبير لبناء هذه الشعبة، وكان يبحث عن أساتذة لإنجاح البرنامج .. وعلى الرغم من كوني لم أرغب في البقاء بهولندا، لأنها لم تعجبني كثيرا، إلاّ أنني قبلت الوظيفة التي جعلتني أبقى بالأراضي المنخفضة إلى حدود الآن"، يورد العيساتي قبل أن يواصل: "أنا مُلحق حاليا بجامعة أوتريخت لأن هناك تغييرات داخل الجامعة، وميلي الآني يدفعني صوب الاشتغال أكثر على شؤون المغرب ومع المغاربة، وفي المحيط الجامعي المغربي".
يشتغل العيساتي، حاليا، أستاذا جامعيا مدرّسا في "ماستر التواصل بين الثقافات" بجامعة أوتريخت، ويعمل ضمن هذا الإطار الأكاديمي على تمكين المكوّنين من الكيفيّة التي تحقق التواصل لدى أناس يتحدثون لغات مختلفة ولهم إطار مرجعي متباين، بتركيز على ساكنة الاتحاد الأوروبيّ وكيفية تناول قضاياها الهوياتيّة مع تواجد التفاعل الثقافيّ.
زيف الاندماج
يتوفّر عبد الرحمان العيساتي على قبّعة ناشط لغويّ وثقافيّ يواظب على ارتدائها بعيدا عن انشغالاته المهنيّة الأكاديميّة، وبالقبّعة ذاتها عمل العيساتي على مقاربة موضوع اندماج مغاربة هولندا من خلال تعاطٍ ميدانيّ مسترسل منذ عقود خلت.
"كنت أنظر إلى اندماج المهاجرين المغاربة في البيئة المجتمعية الهولنديّة بنوع من السذاجة. وسيْر أبحاثي وقف على كون النتائج المتوصّل إليها من لدن المنشغلين بالتدقيقات، وهم متعدّدون، تستوجب التطبيق من لدن المسؤولين عن التدبير بالبلاد. فعلى سبيل المثال: إذا وصلتُ إلى نتيجة مفادها أن الأطفال ذوي الأصول المغربيّة يجب أن تمنح لهم الحظوظ نفسها التي لنظرائهم الهولنديين في حال تفوقوا دراسيا، فذلك يتطلب الأجرأة من لدن منتظري النتائج. لكنّي تيقنت أن هناك نوعا من النفور، أو العنصرية المؤسساتية، في البلد؛ حيث تمنح الأسبقية لأبناء الهولنديّين دون غيرهم. أقول هذا وأنا على اقتناع تام بذلك، بعدما قضيت ربع قرن في الجامعة الهولندية".
ويشرح العيساتي نظرته إلى هذه الإشكاليّة بالقول: "الاندماج ليس صعبا على المغاربة بالمرّة، لكن السياسات الهولندية براغماتية صرفة، فهي تعتمد على النتائج المباشرة والمصالح المرغوب فيها، وبالتالي لا ترى وجود أهمية في إبراز الثقافة الأصل للإنسان وتكوينه بطريقة تمكّنه من الاندماج بإيجابية"، ثمّ يزيد: "تشغلني الآن قضية المواطنة، وعلى نحو أدقّ أهتمّ بدور الثقافة واللغة في تحديد الهويّة، وما يتصل بذلك من تواجد لتعدد الهويات، وكيف يمكن الحديث عن وجود هويّة وطنية؛ حيث إن ذلك يستوجب التعمّق بالبحث من بيت الطفل إلى السن التي يصبح فيها فاعلا مجتمعيا، ولذلك لا أتوقف عن العودة إلى المغرب كعامل مهمّ في تكوين الإنسان الذي يعيش هنا في هولندا".
فِعل ثقافيّ
جهود عبد الرحمان العيساتي وسمت مسار الفعل الثقافي المغربيّ الأمازيغيّ بهولندا، وذلك بفعل إقدامه، قبل 22 عاما من الآن، على تأسيس جمعيّة "أدرار" بمدينة "نيميخْنْ"، بمعيّة مجموعة من الطلبة المغاربة الآخرين؛ إذ أقدم هذا الإطار الجمعويّ على إصدار نشرة إخباريّة كلّ ثلاثة أشهر، وبادر إلى تنظيم مهرجان مصغّر لأجل استمرارية الالتصاق بالجذور المغربيّة الأصل. كما عمل، بتعاون مع بلديّة أمستردام، على توفير دروس بالعربيّة والأمازيغيّة والهولنديّة في محاولة لتقريب المغاربة من الهولنديّين، والعكس أيضا.
بحلول عامي 2006 و2007، أنشأ عبد الرحمان العيساتي، رفقة عدد من مقاسميه همّ الفعل الثقافيّ بهولندا، تجربة "أمازيغي تيفي". وعن هذه المحطّة، يقول العيساتي إن الهمّ كان هو تحقيق التواصل الأفقيّ بين المغاربة، وذلك من منطلق الإيمان بإعلام القرب القادر على التحقق بجعل كل إقليم ومدينة تتوفر على قناة تلفزية وبث إذاعي خاصّ. ويضيف المتحدّث: "يجب أن يتعزّز هذا التوجّه، لأن غياب تواصل مماثل لا يمكّن من تركيز أسس المواطنة وسط أناس لا يحترمون اختلافاتهم اللغويّة والثقافيّة، ومثل هذه المشاريع تبقى صعبة. لذلك تستوجب مواصلة التجريب".
حدس ونصائح
حين يجالس عبد الرحمان العيساتي أنَاه يقرّ بأن مسار حياته يبقى إتباعا لحدسه، والاعتراف باستحالة إمكانية العودة إلى الماضي لتصحيح الأخطاء. فالمغربيّ الهولنديّ يعي بأنّ إتباعه لنصائح محيطه، أينما حلّ وارتحل، إلى جوار تتبع ميله لبلده الأصل واللغات والثقافات، قد جعله يتوفّر على مزيج يحدد نهج عيشه.
"آمل أن أحقق، مستقبلا، تعمّقا بحثيا، بمعيّة متخصصين مغاربة، في كل ما يهمّ المواطنة في معناها الثقافيّ؛ ذلك أنها، من وجهة نظري، ينبغي أن تكون متصلة بالثقافة أكثر من السياسة، وأن توفر الاحترام وتعزز التبادل وتفرز الاعتزاز، وتطبّع مع العقلانيَّة. لا يكفي أن نقول إننا مغاربة فقط، بل ينبغي أن نكون مغاربة فعلا وسط محيطنا الجيوـ استراتيجيّ المَكسَب في منطقة شمال إفريقيا، وما يتطلبه ذلك من اشتغال علميّ، مع فتح نقاش بخصوص ذلك بين الجميع عسى أن يعيَ المواطنون حاجتهم إلى بعضهم البعض"، يقول العيساتي، ثم يضيف: "من حسن حظي أنني أشتغل في مجال التواصل، وأعرف أن أوروبا تعمل على الموضوع نفسه باهتمام يقابله بذل ماديّ كبير، بينما الدستور المغربيّ يشمل هذا التوجّه، لكنّ الترجمة على المستويين السوسيولوجي واللساني ينبغي أن تتحقق، وكيفية نيل ذلك هي هدف لعملي بالمرحلة القادمة".
مظاهر خادعة
راكم عبد الرحمان العيساتي خبرة ينيف زمنها عن ربع قرن وسط الهجرة والمهاجرين، ومن هذا المنطلق يدعو الراغبين في خوض التجربة إلى عدم الاغترار بالمظاهر التي قد تبدو على البعض من مغاربة العالم الذين يفدون إلى الوطن.
وصرّح العيساتي بكون المدفوعين صوب الهجرة من منطلق "لقمة العيش" لا يمكن أن يتمّ تقديم نصائح إليهم، وذلك لغياب بدائل أمامهم، بينما ذوو الإمكانيات والوظائف القارّة، وفق الأكاديميّ المغربيّ، عليهم أن يفهموا بأن الغرب يفكّر في نفسه قبل أن يفكّر في الآخرين.
"ينبغي أن تُغيّب النظرات السطحيّة إلى الأمور، وهي التي كُنت أرَى بها من منطلقِي أيضا؛ حيث يتوجّب الحذر وعدم التسرع في إبداء الرفض" يقول عبد الرحمان العيساتي الذي يواصل: "هناك رفض مبدئي من المغاربة للعيش في الوسط الذي كبرت فيه. ويبرز ذلك من خلال عبارات متداولة كَـ: مَاكَايْنْ مَا يْدَّارْ هْنَا؛ أي إن هناك نوعا من فقدان المعنى للعيش، بينما القيمة الرمزية للفرد هي المحدد لطريقة عيشه لاَ التفاصيل المادية، وكرامة الإنسان لا تُشْتَرَى".