مازالت رحمة المودن، البالغة من العمر 56 عاما، محافظة على لسانِها الجبليّ وهي تخاطب أبناء جلدتِها، وذلك رغم مراكمتها 40 عاما من الحياة وسط هولندا..وإلى جانب منطوقِها المحتفظ بسِمَته الثقافيّة المغربيّة الشماليّة، تدخر رحمة، إلى حدود الآن، طاقة التحدّي نفسها التي غادرت بها طَنجة، والتي استثمرتها في التحوّل من عاملة بسيطَة إلى مستثمرَة مرموقة في الديار الهولنديّة.
حلم طفوليّ
تنتمي رحمة المودّن، المواطنة الهولنديّة الجنسيّة والمغربيّة الأصل، إلى "عاصمة البوغاز" التي رأت بها النور في أوّل عام من ستينيات القرن الماضي.. ورحمة سليلة أسرة محافظة أساسها والد اشتغل طيلة حياته إمامَ مسجد.
تقرّ رحمة بكون الانتقال من "طنجة العاليَة" صوب أوروبا كان حلم حياتها منذ أن بلغت الثامنة من عمرها، وتضيف في هذا الصدد: "كان الزواج هو حلّي الأوحد لمعانقة حلمي الأوروبيّ، وتحقق لي ذلك أواسط السبعينيات، ما مكّنني من الوصول إلى الديار الهولنديّة وأنا في الـ16 من عمري".
"لم تكن هجرتي بدافع معيشيّ، فقد نشأت بين أحضان أسرة متوسطة اليسر، وأبي الإمام، رحمه الله، كان منفتحا إلى درجة أنّه لم يطالبني، أبدا، بوضع "السْبْنِيَّـة" على رأسِي، وإن كانت أمّي قامت بذلك في أحايين قليلَة، بدعوَى موقع والدي الاجتماعيّ كإمام..لكننّي رغبت في الاقتران بمقيم خارج الوطن من أجل تجنّب المعاملة التي كانت تطال المغربيّات، وقتها، حين الانتقال إلى بيوت أزوجهنّ"، تقول المودن.
إيقاع جديد
استغرقت رحمة المودن سنتَين اثنتين قبل ضبط إيقاع حياتها على متطلبات البيئة الهولنديّة التي شدّت إليها الرحال من شمال المغرب، خاصّة أن المغربيّة ذاتها لم تكن قد تعلّمت التواصل بلسان أهل الأراضي المنخفضة، كما أنها افتقدت سند الآل والأقارب، وتأثرت بالانشغالات المهنية لزوجها، الذي لم يكن يعود إلى البيت إلاّ بعد ساعتين من منتصف كل ليلة.
"لم أستطع التأقلم مع البقاء وحيدة في البيت، وكنت حُبلى في الشهر الثامن حين نجحت في إقناع زوجي، بعد طول إلحاح، بالموافقة على خروجي للاشتغال.. فكانت الانطلاقة عام 1977 بعملي كمنظّفة لدى شركة تقدّم هذه الخدمة..ثمّ وازنت بين ذلك وشروعي في تكوين من أجل إتقان اللغة أوّلا؛ ثم اجتزت امتحان السياقة، وراكمت شواهد تكوين في المجال المهنيّ الذي دخلته، وأخذت في تطوير موقعي وسطه"، تقول رحمة المودن.
للعُلاَ سَعيا
بحلول سنة 1980 تمكنت "ابنة طنجة" من الظفر بمسؤولية قيادة 7 منظفين بالشركة التي تشغّلها وتشغّلهم، وبحكم ميولها إلى البصم على خدمات تنظيف ممتازة حظيت بترقيّة تلو الأخرى، إلى أن صارت مساعدة رئيس فريق من 200 مستخدم، فجاءت سنة 1997 بقطيعة بين رحمة المودن ومشغلها، فاختارت التأسيس لمشروعها الخاص.
وعن تلك الفترة ومحددات المبادرة تقول المودن: "كنت أنتظر تسميتي في منصب مسؤولية أكبر من الذي تواجدت فيه، لكنّ موجة التغييرات التي أشرفت عليها لجنة ذات صلاحيات في هذا الإطار أغفلت اسمي والدور الذي لعبته طيلة 20 عاما من الخدمة، ما دفعني إلى تقديم استقالتي"، تورد رحمة قبل أن تسترسل: "قصدت إحدى الزبونات من أجل توديعها، وحين أخبرتها بما جرى رفضت التخلّي عنّي، وطلبت مني تأسيس شركة من أجل البصم على تعاقد يمكنني من صفقة التنظيف التي كانت لمشغلي السابق، كما حرّكت هاتفها لسحب ثلاث زبناء آخرين نحوي..فكان ما كان".
استهلت رحمة المودن مشروعها بموارد بشريّة لا تتخطّى 7 أفرد، ثم أخذت في مراكمة التعاقدات مع جهات متعددة، من بينها بلديّة أمستردام، وبعد مضيّ سنتين نالت جائزة "المرأة الأوروبية العاملة"، فكانت تلك الطفرة التي جعلت كل العيون تتوجه صوبها، وانعكس عليها المعطَى إيجابيا بحضور إعلاميّ واسع وكذا توافد عقود اشتغال إضافيّة.
وبشأن ذلك تعلّق المودّن: "أسهم هذا التتويج، الذي التأم حفله أواخر التسعينيات بلندن، في نماء معاملات شركتي؛ ذلك أن الزبناء كانوا يعتبرون الإقبال على خدماتي بمثابة إسهام في مساندة أجنبيّة استثنائيّة"، قبل أن تزيد رحمة ساخرة: "يمكنهم اتخاذ الاعتبار الذي يشاؤون، فما كان يهمّني وقتها هو نيل المزيد من التعاقدات"، وتواصل: "لقد تضاعف رقم المعاملات حتى لم نعد قادرين على الانخراط في التزامات أكثر".
تتصدّر رحمة المودن، حاليا، مجموعة متوفرة على ستّ شركات ناشطة في مجالات مختلفة في عموم التراب الهولنديّ، تقدّم خدمات التنظيف والحراسة والإصلاحات الخفيفة، إلى جوار عمالة المطابخ التجارية، بينما مناصب الشغل المباشرة التي توفرها تتخطّى 500.. "لدينا سمعة طيبة، ونتشبث بالإخلاص والتفاني في العمل، وفق ما نلته في تربيتي، وطموحي الأبدي هو أن أكون ربة عمل مثاليّة حتى أساهم في كسر الصور النمطيّة".
ورغم مسيرة النجاح التي بصمت عليها تكشف المودن قرب تركها للعمل في هولندا بحلول العام 2018، مختارة تسليم المشعل لأميمَة، ابنتها الكبرى التي ترافقها في التسيير منذ ثلاث سنوات خلت.. "جاء وقت تغيير الأجواء بعد أن أنهيت إستراتيجيّتي لحماية المجموعة من التخوفات التي قد يفرزها غيابي وسط الزبناء، وهدفي للعامين المتبقيين هو رفع قيمة رأس المال تجنبا للرجّات المحتملة".
طموحات إضافية
تهتم رحمة المودن بعدد من المبادرات الخيريّة في هولندا، ومنها أجرأة مشروع خيري يوفّر التكفل بالأطفال الذي لم يلاقوا النجاح الدراسي ودُفعوا بذلك صوب الشوارع..كما تروم المستثمرة المغربية الهولندية نفسها التأسيس لمشاريع اقتصادية أخرى بالتراب المغربيّ.
"لقد عشت بهولندا أكثر مما حَييت بالمغرب، وبذلك عايشت الأجانب أكثر من أبناء جلدتي، وراكمت نجاحات رغم كم الصعوبات التي لاقيتها..ومن هذا المنطلق أومن بأن الهولنديين يحبون الغير، لكنّهم لن يقبلوا أبدا أن يكون وافد على مجتمعهم في وضع أفضل منهم، وهذا ما يبرز تصرفات عنصريّة تتبدّى بقوّة، وتنامت خلال العِقد الأخير، والأمور آخذة في التنامي، وكأنّنا قد قدمنا اليوم إلى هذه الأراضي"، تقول المودن.
وتضيف المتحدثة عينها: "أنا راضية بما حققته..لكنّي مازلت راغبة في الاشتغال بالمغرب والمساهمة في الدينامية التي يعرفها من منطلق معرفتي الاستثماريّة.. وهذا يدفعني إلى تقديم نصح بوجوب إزالة كل معيقات توافد الرساميل، رغم الجهود الكبيرة التي تبذل مسبقا في هذا الإطار، وأولاها مكافحة الرشوة والضرب بقوّة على أيادي كل المرتشين..فالمملكة تحتاج أبناءها المبادرين أينما كانوا في العالم".
هجرة إلى الذات
ترى رحمة المودن أن أوضاع المغاربة تطورت بشكل ملفت عمّا كان عليه الحال قبل هجرتها إلى هولندا، وتعود بذاكرتها إلى التخوّف الذي كان يسكنها من معاملة حديثات الزواج في بيوتهنّ الجديدة، لكي تحسم أن "الوقت تْبْدْلاَتْ بْزَّافْ، وحْتَى الهِجْرَة مَا بقَى لِيهَا دَاعِي"، وفق تعبيرها.
ووفق المودن فإن الشباب المغاربة الراغبين في خوض تجارب هجرة عليهم الوعي بأن "المشاكل آخذة في التنامي مع استفحال مظاهر العنصرية والميز، وما تؤدي إليه من تقليص لفرص الشغل وسط ذوي الأصول الأجنبيّة".. لكنّ رحمة تُشجّع على خوض التجربة من أجل نيل خبرة ممكّنة من اكتساب مدارك معرفيّة، أو نقل مستجدّات تكنولوجيّة صوب الوطن الأمّ، معتبرة أن الهجرة الحديثة ينبغي أن تكون صوب الذات الجمعيّة.. ولأجلها.