لم تحلم ربيعة بحلحول، المرأة الخمسينيّة الهولنديّة ذات الأصول المغربيّة، إلاّ بقسم يضمّ تلاميذ ينتبهون إلى دروس تقدّمها في اللغة الفرنسيّة، وبعدما يتوفّقون في تعليمهم نهاية العام تشرع في الإعداد لتقديم المنهج التعليمي نفسه إلى الدفعة المواليّة .. لكنّ هذا الحلم، الذي راودها قبل أربعة عقود لم يتحقّق نتيجة هجرتها وأسرتها إلى خارج المغرب .. ما حذا بربيعة إلى خوض غمار مسار بديل، لم ينطلق من حلم واضح بقدر ما اعتمد على تجميع أحلام قابلة للتطوير، لتسير بتوفّق من زَايُو إلى مقر وزارة الشؤون الاجتماعيّ في لاَهَاي.
صدمة الرحيل
تجنّبت ربيعة بوحلحول تجربة هجرة مبكّرة إلى الديار الهولنديّة، التي كان يستقرّ بها والدها مسبقا، بفعل معارضة جدّها لهذا الخيار .. إذ بقيت مستقرّة في زَايو، القصيّة بـ40 كيلومترا عن مركز إقليم النّاظور، طيلة الأعوام الـ11 الأولى من عمرها .. لكنّ رحيل جدّها إلى دار البقاء، سنة 1976، دفع بأسرتها إلى تفعيل مسطرة التجمّع العائليّ ونقل ربيعة، في العام الموالي لذلك، نحو الأراضي المنخفضة.
"شكّل هذا المستجدّ صدمة بالنسبة إليّ"، تقول بوحلحول قبل أن تزيد: "كان قاسيا عليّ أن أفارق بيئتي الأصل التي ألفتها في ضواحي زايو، وهي المشكّلة وقتها من عائلتي وأبناء جيلي الذين أثثوا كل لحظة في حياتي الطفوليّة .. هذا الرحيل كان صدمة بالنسبة لي وأنا أواجه مجتمعا هولنديا مغايرا بالمرّة لما ألفته، سواء على المستوى الجغرافيّ أو نظيره العمراني وحتّى الاجتماعيّ".
شَدُّ ربيعة بوحلحول لرحالها، بمعيّة والدتها وإخوتها، من شمال المغرب إلى "مَاصْلاَشْ" الهولنديّة حاولَت مواكبته، على مراحل متتاليّة، بخطوات تأقلم بدئيّة انطلقت من التعرّف على المحيط الجديد من خلال خرجات أسريّة .. "كان أبي يصطحبنا في خرجات عدّة من أجل التعوّد على التواجد في هولندا، لكنّ عيشتنا بالمنزل بقيت مغربيّة صرفة .. ما جعلنا نبرز وكأننا نتعايش مع بلدين وثقافتين لا وجود لما يجمعهم بتاتا"، تعلّق ربيعة.
فُقدان الأسْتَذَة
في لحظة نوستالجيا عادت بها إلى ما قبل سنة 1977 تقول ربيعة بوحلحول إن خطوة الهجرة الجماعيّة لأسرتها نحو هولندا قد جعلتها تفقد حلمها البدئيّ الملتصق بالتحوّل إلى أستاذة للغة الفرنسيّة، حيث كانت تراهن على استمرار تفوقها الدراسيّ في زايو كي تنال شهادة باكالوريا وتتقدّم لتكوين في مهن التربيّة بنيّة شَغْل منصب تدريسيّ لـ"لغة موليِير" .. وتضيف: "كان ذلك حلما حملته وحاولت رعايته حتّى يتحقق فخر أسرتي بي، لكنّ الانتقال إلى هولندا محاه بين عشيّة وضحاها".
ساهم إتقان ربيعة للغة الفرنسيّة كتابة ونطقا في ضمان قسط من التواصل مع أوائل أساتذتها في المدرسة الهولنديّة التي ولجتها للاستمرار في تعليمها الابتدائيّ، حيث كانت تعبّر عن ذاتها بهذا اللسان لاستثمار فهم مدرسيها الفرنسيّة، منتظرة تحقق ضبطها التعامل باللغة الهولنديّة .. وتفيذ حلحول بخصوص تلك الفترة: "حققت اللغة الفرنسيّة بواكر تفاهمي مع محيطي المدرسي الهولنديّ من خلال الأطر التدريسيّة التي تعاملت معي .. وبفعل إيمان والدي بأن التواجد على الأراضي الهولنديّ يبقى ظرفيا؛ في انتظار عودة رآها مؤكّدة التحقق صوب المغرب، كباقي أفراد الجيل الأوّل من الهجرة، طلَب تلقيني مهارات في الخياطة والطبخ .. بينما جَارَيت هذا النهج بدوري من خلال الإقبال على تعلّم أبجديات التجارة، لعلّني أعود إلى الوطن الأمّ وأحترف البيع والشراء .. لكنّ مرور الوقت أبرز خطأ كلا التوقعين".
ميولات جمعويّة
حرصت ربيعة بوحلحول على الانفتاح، بتواز مع وصولها إلى مرحلة الدراسة الثانوية ونيلها شهادة باكالوريا هولنديّة، على شريحة عريضة من ساكنة محيطها المتأصلة من المغرب، بتركيز خاص همّ شريحة النساء .. ما مكّن المهاجرة من التعرف على الإشكايات التي يلاقينها في تربية أبنائهنّ وما يصاحب ذلك من صعوبات في التعبير عن إخفاقاتهن في حلحلة الصعوبات التي يلاقينها .. وقد تطوّرت، وفقا لهذا الانشغال، ميولات ربيعة إلى العمل الجمعويّ .. وجعلها هذا الخيار تبصم على مبادرات مسترسلة رامت تقويّة أساليب تواصل ذوات الأصول المغربيّة مع محيطهنّ الهولنديّ في أكثر من موعد جامع بين التحسيس والتدقيق والنقاش والتطوير.
"أغلب الهولنديين كانوا ينصحونني بمتابعة دراستي مع التشبث بالطموحات في هذا المضمار، وقد كنت استغرب كلامهم باعتباري أن فعلي المدنيّ لا يهدف إلاّ لمساعدة من يستحقون ذلك في محيطي"، تقول بولحلول قبل أن تسترسل: "ما زلت أذكر كيف اشتغلت على تنظيم مهرجان صغير، وقد اتصلت حينها بنشطاء مستقرين في مدينة روتردام كي أطلب منهم معلومات تفيدني في إنجاح التظاهرة، لكنّهم أصرّوا على الحضور لتتبع المبادرة الساعية إلى التعريف بالثقافة المغربيّة الإسلاميّة .. وقد دفعهم ما تحقق لديهم من إعجاب بالاشتغال المتحقق إلى أن يطلبوا منّي التعاون معهم لتعريف متدخلين مجتمعيّين عديدين بما يعترض ذوي الأصول المغربيّة في المنطقة، خاصّة العنصر النسويّ، من مصاعب لا يجرى الانتباه إليها .. فكانت أولى لقاءاتي أمام ما يناهز 30 عنصرا أمنيّا من شرطة روتردام .. واستغربت أنّي عوِّضتُ بـ200 خولدة، حينها، نظير العرض الذي قدّمته أمام الحاضرين".
ساهم الاهتمام بالاشتغالات الجمعوية في نيل ربيعة لكل الدعم من أجل مواصلة تكوينها الدراسيّ المركّز على مجال الرعاية الاجتماعيّة، كما وقف هذا النشاط وراء تطويرها لمقارباتها التي تعتني بانشغالات مغاربة هولندا المقيمين في "رَايموند" .. فواظبت بوحلحول، منذ أوائل سنوات العقد الثامن من القرن الماضي، على الانخراط في مبادرات ودراسات اجتماعيّة مشخّصة للاختلالات الاجتماعيّة التي تلاقيها هذه الفئة من المتواجدين فوق الأراضي المنخفضة .. وقد لاقت الهولنديّة المغربيّة ذاتها إشادات جعلتها تظفر بمنصب شغل مع بلديّة المدينة استدام لـ12 عاما.
استشارة وزاريّة
"لم أفكّر أبدا في مغادرَة روتردام ونواحيها لأنّني ضبطت التعاطي مع انشغالات عموم الجاليات من موقعي المهنيّ، كما أن الفكرة كانت غير واردة لديّ بفعل الإعجاب الذي تحقق لديّ بهذه المنطقة التي عشت فيها وتعلّمت من ساكنتها أمورا كثيرة .. لكنّي توصلت بعرض من وزارة الشؤون الاجتماعية الهولنديّة من أجل تطوير عطاءاتي من خلال التعامل مع ملفات الأجانب في عموم هولندا، وحينها آمنت بقدرتي على تحقيق نفع مجتمعيّ متصل بحيّز تدخّل أوسع عن ذلك الذي ألفته، كما أيقنت بأنّ الآخرين لم يعودوا ينظرون إليّ كوافدَة .. فقبلت هذا الالتزام"، تقول ربيعة بخصوص تموقعها الحالي الذي يمكّنها من تقديم استشارات وزاريّة للحكومة الهولنديّة.
نفس الهولنديّة المغربيّة، من موقع اشتغالها الآن في لاَهَاي الذي وفدت عليه من زايو، مرورا بروتردام ونواحيها، تعكف بشكل يوميّ على تقديم مقترحات حلول للمشاكل التي تعترض شؤون التدبير البلديّ في الأراضي المنخفضة، متخصّصة في كل ما يعترض اندماج ذوي الأصول الأجنبيّة فوق التراب الهولنديّ، بتركيز على محاربة التطرّف وتحسين العلاقات بين المنتمين إلى ثقافات أصليّة متباينة يزخر بها العيش في هولندا.
ثقة بالنفس
تقرّ "ابنة زايو" بتحقق رضاها التّام عن المسار الذي بصمت عليه في الأراضي المنخفضة، وتبتسم كلّما تذكّرت مرحلة التيه التي عاشتها خلال الأعوام الأولى من وفودها على البلد، وتقول: "سُرق حلمي الأوّل حين جاءت صدمة الرحيل عن وطني الأمّ، لكنّي عانقت حلما بديلا ارتبط بتقديم يد العون للراغبين في التعريف بمشاكلهم، علّهم يتخطّونها، وحاولت من هذا المنطلق الوصول إلى مقاربات تشاركيّة يحضر الجميع فيها بحثا عن الحلول .. والآن ما زلت أتوفر على طموحات تتصل بضرورة القضاء على التعابير العنصرية ومظاهر التخلف، مع تحييد الأحقاد وإشاعة التعايش والاحترام".
بناء على الخبرات المحققة من مسار ربيعة بوحلحول ترى نفس الهولنديّة المغربيّة أن من وصفات تحقيق النجاح ما يستند على قسط غير هيّن من البذل بكلّ أمانة وإخلاص لأجل الفرد والمجتمع، مع توفير أقصى الجهود في سبيل الحد من السلبيّات التي تعيق التقدّم نحو غد أفضل.. دون إغفال ما يتوجّب من حرص على إيجاد بدائل لكل حلم مُجهض" .. وتزيد بوحلحول في السياق نفسه: "ينبغي ألّا يتوقّف الناس عن معانقة الأحلام كلّما استطاعوا إلى ذلك سبيلا في هذه الحياة، والأهم أن يتحلوا بالثقة في أنفسهم .. دون الثقة في القدرة على التقدّم سيسود اليأس وتتضخّم فرص الفشل .. لا يهمّ أن يكون المرء متحدّرا من وسط فقير ماديّا، لكنّ الفقر المعنويّ يبقى فاعلا سلبيا يستوجب الاستئصال".