يعدّ مرزوق أولاد عبد الله، الهولنديّ الانتماء والمغربي الأصل، واحدا من الأسماء التي أثمرتها تجربة التعايش بين الديانتين الإسلاميّة والنصرانيّة بالأراضي المنخفضة. فالرجل الذي ولج كنيسة منتصف سبعينيات الألفيّة الماضيّة من أجل حفظ القرآن الكريم، لا يزال يراكم سنوات تلو الأخرى من التواجد كمرجع أكاديميّ إسلاميّ داخل إحدى أعرق الجامعات المسيحيّة الهولنديّة، ويواكب هذا التموقع المهنيّ والاجتماعيّ بانشغالات مدنيّة تحفّز على تفاهم البشر، كيفما كانت ميولاتهم العقديّة، ابتغاء لأفضل ما يمكن تحقيقه على وجه البسيطة.
هجرة بلا غربة
ولد مرزوق أولاد عبد الله أواسط ستينيات القرن الماضي بشمال المغرب، وتحديدا بمنطقة الجبهة التابعة للنفوذ الترابي لإقليم الحسيمة. وبالحيز الجغرافي الريفيّ عينه، تدرّج مرزوق في تحصيل المعرفة وفق المنهج العتيق وسط الكتّاب القرآني إلى أن بلغ العاشرة من عمره؛ حيث شهدت سنة 1975 التحاقه بالديار الهولنديّة، أمستردام على وجه التحديد.
يقول أولاد عبد الله إن رحيله نحو حياته الجديدة كان في حلّة هجرة بلا غربة، ويفسّر: "صحيح أن كل شيء كان مختلفا بين الجبهة وأمستردام، لكنّنا وجدنا نوعا من الحفاوة والاحترام بالمجتمع الهولنديّ، حتّى الناس كانوا يحاولون التكلّم معنا من أجل التعرّف علينا ونيل فكرة عن أوصولنا . وهذا واقع مغاير لما هو معاش من لدن الوافدين حديثي العهد".
ملازمة الثقافة الأمّ
حظي مرزوق أولاد عبد الله بطفولة شهدت ملازمة ثقافته المغربيّة الأمّ له، ولم يغيّر من ذلك صغر سنّه وما أتاحه له من تعلّم واندماج في محيطه الهولنديّة الجديد، "من الطبيعيّ أن يأخذ الإنسان بلده وثقافته معه أينما حلّ وارتحل، وقد حاولت، دوما، أن أصون شخصيتي الأصل بدعم من والديّ اللذين تكفلا بي وأفهماني أن المجيء إلى الأراضي المنخفضة لا يعني الإقبال على الانسلاخ من الهوية أو الاستسلام للاستلاب، بل ربّيا فيّ وجوب ربط جسور التواصل مع المجتمع انطلاقا ممّا أنا عليه، وما يعنيه ذلك من بحث عن اندماج واع مبنيّ على التعقّل".
كان مرزوق واحدا من 6 صغار استهلّت بهم تجربة تربية دينيّة ضمن المسجد الذي أضحى حاملا لاسم "المسجد الكبير"؛ إذ شرع في حفظ القرآن وهو ابن الحادية عشر من عمره، حتّى تمكّن من ذلك بعد مرور خمس سنوات، مستفيدا في تحقيق ذلك من جهود تكتل أنشأته أسر مغربيّة شاءت البصم على كيان مصغّر، خاص بها، قادر على أن يصون ثقافتها الوافدة على أمستردام من الضفة المتوسطية الجنوبيّة.
المسجد المثار كان داخل مقرّ كنيسة احتضنت المبادرة؛ حيث إن المغاربة كانت لديهم أفكار دون نيل الإمكانيات المالية التي تجعلهم يلتزمون بأداء سومة كرائيّة لمسجد خاصّ بهم. وأذكر أنهم قدّموا طلبا إلى الكنيسة التي وافقت على منحهم حيزا تحت أرضيّ لإقامة الصلوات، بينما كانت مناسك المسيحيّين تجري بالدور الذي يعلوه"، يقول أولاد عبد الله.
ويضيف المتحدّث: "وازيت حفظي القرآن بالتدرج ضمن المدارس الهولنديّة، فتمكنت من الذّكر الحكيم عند إكمالي الـ16، وذلك على الطريقة المغربيّة المعتمدة في التلقين بالألواح، وقد كان تصوّر الرعيل الأوّل يجعلني، بمعية من رافقوني، محط اهتمام لتولي الإمامة بالمسجد وما يرافقه من إلقاء دروس وعظ".
تكوين شرعيّ
بعدما نال مرزوق أولاد عبد الله شهادة الباكلوريا الهولنديّة عاد مجدّدا إلى المغرب من أجل التواجد لعام كامل كطالب علم بإحدى المعاهد العتيقة في تطوان، معمقا مداركه في العلوم الشرعيّة على أيدي علماء المجال المتخصّصين بالوطن الأمّ، وعقب ذلك عاود حزم حقائبه من أجل الالتحاق مرّة أخرى بالأراضي المنخفضة.
تكوين الهولندي المغربيّ نفسه مكّنه من قبول طلب دراسته بجامع الأزهر في العاصمة المصريّة القاهرة، ويورد بشأن هذه المرحلة: "خضعت لدراسة دينية في كلّية الشريعة والقانون بتزامن مع الدراسة في هولندا، فتمكّنت من الماجستير ثمّ الدكتوراه. كانت أطروحتي الأكاديميّة للماجستير تهمّ عزل الموظف العام في النظام الإسلاميّ ونظم الإدارة المعاصرة، تحت إشراف الدكتور نصر فريد واصل، مفتي الجمهورية المصريّة، أما رسالة الدكتوراه فقد تمحورت حول تغيّر أسعار الصرف وتطبيقاتها المعاصرة في الاقتصاد الإسلامي مقارنة مع الاقتصاد الوضعيّ.
تأطير فكريّ
بعد عودته من أرض الكنانة إلى هولندا، التحق مرزوق أولاد عبد الله بالجامعة الحرّة في أمستردام، منتميا إلى قسمها المخصّص للدراسات الإسلاميّة، مواظبا، طيلة العقود الماضيّة، على تمكين طلبته من تأطير فكريّ يفهمهم عمق الديانة الإسلاميّة عموما، وتشريعاتها على وجه خاصّ.
درّس الهولندي ذو الأصل المغربيّ عددا من المواد بالمؤسسة الأكاديميّة المذكورة؛ أبرزها: "الإسلام في أوروبا" و"أصول الفقه" و"الفقه الإسلامي"، كما أشرف على تكوين الأئمة. ويوازي أولاد عبد الله بين هذا الالتزام المهني التدريسيّ، المستمرّ حتى الحين، وإعطاء خطب في عدد من مساجد أمستردام، منها "المسجد الكبير"، إلى جوار مساجد مغربية أخرى. كما يعدّ مرزوق، بناء على تخصصاته المعرفيّة، ضيفا مرحبا به في العديد من الدروس والمحاضرات التي يؤطرها على طول العام بعدد من أرجاء المملكة الهولنديّة وخارجها.
تواصل مستمرّ
قرّ مرزوق أولاد عبد الله بأن نيل الرضا التام يبقى غير ممكن، ولقاء ذلك يؤمن بأن الانتقال ما بين مرحلة حياتيّة وأخرى يتيح له تطوير نفسه مع المساهمة في رقيّ المجتمع؛ حيث يداوم على تطبيق ما تحصل عليه من دراسة العلوم الشرعيّة بفضاءات عيشه المختلفة مكانا وزمانا.
"أحاول، كمغربيّ في الغرب، أن أساهم بالفعل الإيجابيّ في المجتمع، وأن أربط جسور التواصل بين المغاربة داخل المجتمع الهولندي، وحتى المجتمع الغربي، من أجل إرساء مفاهيم التواصل باستمرار وتدعيم تطبيقات لنظريات التسامح والتعايش السلمي وفهم واحترام الآخرين"، يقول مرزوق قبل أن يواصل: "يمكننا أن ننطلق دوما من ثقافتنا المغربية الإسلامية، الضاربة في أعماق التاريخ، كي نحاول أن نعدّ مواطنين صالحين لأنفسهم وأسرهم وعائلاتهم ومجتمعهم، وأن نكون وسائل للبناء والتطوير، وأن نحاول تكوين صورة مشرفة عن بلدنا، وأن لا نكون عالة على المجتمع، وأن نسهم ثقافيا وسياسيا واجتماعيا في تحقيق الرقيّ ما دام الإنسان يهدف إلى التطوّر".
ويسترسل المتحدّث: "هناك أفكار متطرفة تعمل على ضرب التعايش السلمي في المجتمعات، سواء العربية الإسلاميّة أو الغربية، وينبغي أن نحاول باستمرار صدها من خلال ثقافة التسامح وفهم الآخر والتعايش عبر التعليم، وربط جسور التواصل"، ثمّ يفسّر انطلاقا من اشتغالاته بالقول: "كونّا مجموعات تضم مسلمين ويهودا ومسيحيين، وحتى ملحدين، كي نجتمع ونناقش ما يهم المجتمع، بما يحمله الوعاء الحياتي الذي يجمعنا من اضطرابات فكريّة؛ إذ نطرح الإشكالات ونقترح حلولا نحاول ترجمتها إلى خطوات عمليّة. فمفهوم السلم هو الأساس دون ما يمكن أن يضرّ باللحمة المجتمعيّ".
منطلَق من الذات
يقترح مرزوق أولاد عبد الله على الشبان والشابات الراغبين في النجاح، إما في مجتمعاتهم الأصلية أو بالبلدان المستقبلة لهجراتهم عبر العالم، أن ينطلقوا من فهم ذواتهم، بشخصياتهم وتواريخهم وبلدانهم وحضاراتهم، ومن ثمّ يتمكّنوا من القدرة على تفاهم مع أنفسهم، أولا، والآخرين ضمن المستوى الثاني من التعاطي.
"الإنسان التائه لا يتملكه الضعف في أي مجتمع تواجد به، وبالتالي لا يعدّ مؤهلا للنجاح في أي من المجالات التي يقبل عليها. وبالنسبة للمغاربة فإنّهم مطالبون، وفق نظرتي وتجربتي، بتقويّة روابطهم الذاتيّة بهويتهم الأصل حتّى يقبلوا على الفعل بتركيز على ما يحيط بهم؛ ذلك أن انفتاحهم على الآخرين، بعد إنهاء صدامهم مع دواخلهم، هو من أنجع العوامل التي تقود صوب السداد والتطوّر"، يختم مرزوق أولاد عبد الله.