يدور الحديث حاليا في هولندا حول مشاركة الشباب المسلم (قل المغربي) في الحرب الدائرة في سوريا. حيث تقدر إحصائيات مختلفة عدد هؤلاء ما بين 100 و 150 عنصرا. هذا وقد تم تأكيد وفاة ثلاثة أشخاص منهم.
وفي خضم هذا النقاش عقد مؤخرا بمدينة أمستردام لقاء تحت عنوان: خطر جاذبية الحرب السورية علي الشباب المغربي الهولندي. لقاء دعت إلى تنظيمه جمعيات مغربية. والتي نددت في ختام اللقاء (بالجماعات المتطرفة التي تستعمل الاسلام لتمرير خطابها الاديلوجي المبني على نشر وترسيخ ثقافة العداء والكراهية وممارسة العنف والتي لا تمت إلى الإسلام بصلة). مبادرة جيدة أن تقوم جمعيات ومساجد مغربية بمناقشة موضوع بمثل هذه الأهمية والخطورة في آن.
ولكن في نظري يبقى السؤال الجوهري بهذا الخصوص هو: من المسؤول عن هذا المصير الذي وصل بأبنائنا إلى حد هجر أسرهم ومدارسهم وأعمالهم ليقدموا أنفسهم وقودا في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل؟ ففي خضم هذا النقاش تتم الإشارة بأصابع الاتهام تارة إلى المنزل وتارة إلى المدرسة أو الشارع، وهناك من يحمل المسؤولية للسياسة أو الإعلام أو كل هذه وهؤلاء جميعا. ولكن طرفا مهما ضمن هذه المعادلة يبقى في نظري المسؤول الأكبر: إنها مساجدنا في الخارج.
تتميز الجالية المغربية المقيمة في هولندا بتدينها المعتدل. وحرصها على تنشئة أبنائها تنشئة تزاوج بين نجاحهم داخل المجتمع الهولندي من جهة مع تمسكهم بدينهم وثقافتهم الأصلية من جهة أخرى. يتجلى ذلك في المساجد المنتشرة على طول البلاد وعرضها. فلا تكاد تخلو قرية أو مدينة من مسجد أو عدد من المساجد. وفي كل مسجد يتم تنظيم دروس اللغة العربية وتعليم مبادئ الدين أيام السبت والأحد. وتضيق هذه المساجد بالزوار أيام الجمعة وخلال شهر رمضان والعيدين. ويقدر عدد المساجد حاليا بهولندا بحوالي 500 مسجدا، نصفها تقريبا خاص بالجالية المغربية.
إن هذه الصورة المشرقة يقابلها من الجانب الآخر واقع أقل إشراقا بل ويدعو للقلق. فبعكس مساجد الجالية التركية التي تخضع لتنظيم مهيكل (ليس من الضروري أن يكون مثاليا) لا تخضع المساجد المغربية بهذا البلد لأي إطار تنظيمي. نظريا هناك مجالس وطنية أو جهوية تقوم بتمثيل هذا العدد من المساجد أو ذاك، ولكن الواقع يؤكد بأن كل مسجد كيان قائم بذاته ولا يربطه بالمساجد الأخرى أي رباط من أي نوع كان.
وماذا عن تسيير شؤون هذه المساجد؟
من المؤسف أن نرى معظم المساجد المغربية تسير من طرف أشخاص يفتقدون الحد الأدنى من كفاءات ومهارات التسيير الإداري. بجانب غياب لأي مخطط أو برنامج عمل. مع حرص شديد على إقصاء الطاقات الشابة والواعية من مسؤوليات التسيير والإدارة والتنظيم من أبناء الجيل الثاني والثالث واعتبارهم خطرا يهدد سلطتهم داخل المساجد.
وهذه المساجد تشكل في الغالب الأعم جزرا معزولة عن محيطها الاجتماعي الذي توجد ضمنه. فلا اهتمام ولا تفاعل مع ما يحدث داخل المدينة أو وطن الإقامة. فحتى عندما يتعلق الأمر بالانحراف داخل أوساط الشباب المغربي الذي يفوق (نسبيا) نظيره في أوساط الشباب من الجاليات الأخرى نرى الغياب التام للمسجد من أجل المساهمة في نقاش واحتواء هذا المشكل الذي يسيء لسمعة الجالية المغربية إلى حد لم نعد نحسد عليه، بحجة أن المساجد بيوت لعبادة الله وهي غير مسؤولة عما يقع خارجها.
وباستثناء الصلوات ودروس اللغة العربية يلاحظ غياب تام لأية أنشطة اجتماعية أو ثقافية أو تربوية موازية موجهة للنساء والشباب على وجه الخصوص. والمضحك المبكي أن المبادرين بإنشاء المساجد وخلال مرحلة جمع التبرعات يستصرخون الحس الإسلامي في نفوس أفراد الجالية قصد التبرع من أجل إنقاذ (شبابنا وفتياتنا ونسائنا والحفاظ على هويتهم الثقافية والدينية).
وتقوقع المساجد على نفسها وإغلاقها لأبوابها في وجه الشباب أدى إلى انعدام وجود منبع ديني مسؤول يلبي احتياجات أبناء الجيل الثاني والثالث للاطلاع على أمور دينهم. الأمر الذي يدفع بهؤلاء الشباب إلى البحث عن مصادر بديلة لإرواء هذا العطش المعرفي والروحي في شبكة الإنترنيت أو عبر الفضائيات الدينية أو في مساجد (تصنف في خانة التطرف). ولا داعي للإشارة إلى ما يشكل ذلك من خطر سرعة سقوط فئة من هؤلاء الشباب فريسة للأفكار والإيديولوجيات المتطرفة. أضف إلى ذلك أنه فيمعظم مساجدنا المغربية يتم إلقاء خطب الجمعة والمواعظ باللغة العربية، مما يعني إقصاء كليا للأجيال التي ولدت وترعرعت هنا من حق الوصول إلى المعلومة والمعرفة الدينية باللغة التي تفهمها.بل الأدهى من ذلك أن هناك مساجد تمنع أطفال الآباء والأمهات الذين لا يؤدون واجب (الشرط) لديها من متابعة دروس اللغة العربية والدين بها.
بجانب هذا، تعتبر مساجدنا مسرحا للصراعات بشتى أشكالها وأنواعها (صراعات حول الزعامة والسلطة، صراعات حول الإمام، صراعات قبلية وعائلية...) بين المسيرين أنفسهم أو بين هؤلاء وبين زوار المسجد. فلا يكاد يخلو مسجد من مثل هذه الصراعات وما ينتج عنها من تحالفات وانقسامات في صفوف (الجماعة) تصل أحيانا إلى حد تدخل السلطات المعنية أو اللجوء إلى القضاء. ومؤخرا تم إغلاق مسجد في مدينة هولندية بعد استعمال للعنف داخله.
أما وضع الأئمة فليس بأحسن من وضع المساجد التي يؤدون وظيفتهم بها. فإذا كان أئمة المساجد التركية مثلا يتم تعيينهم وفق شروط معينة وعبر (رئاسة الشؤون الدينية) التركية ويتمتعون بوضع مالي يوازي خطورة الوظيفة التي يؤدونها ويتمتعون باحترام كبير داخل أوساط الجالية التركية،نجد بأن أئمة المساجد المغربية يعانون من أوضاع لا يحسدون عليها: فتعيينهم وإقالتهم رهينا بمزاج هذا العضو أو ذاك، والإمام آخر من يستشار فيما يتعلق بتنظيم الشأن الديني للجماعة المرتبطة بالمسجد، وهم في معظمهم من حفظة القرآن ولا يتوفرون على تكوين دراسي عال يخولهم معالجة الإشكالات الاجتماعية التي تهم الجالية المغربية من منظور إسلامي متفتح على الآخر. وهم بسبب عدم تمكنهم من اللغة المحلية لا يستطيعون التواصل مع أبناء الجالية من الجيل الثاني والثالث. أضف إلى هذا الراتب المالي الهزيل الذي يحصلون عليه.
وإنصافا للحق، توجد مساجد هي عكس ما ماذكرته تماما. ولكنها تبقى الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. وجميل أن يتم الإشادة بمثل هذه المساجد لتكون نموذجا يحتذى به.
في اعتقادي، إن الوقت قد حان لوقفة نراجع فيها حساباتنا، ونقوم فيها -ليس فقط بتصحيح هذا الوضع المخجل الذي وصلت إليه مساجدنا- بل ومن أجل إعادة هيكلة الشأن الديني للجالية بصفة عامة. وهنا، أرى بأن المغرب، وعن طريق المؤسسات المعنية بشؤون الجالية المغربية بالخارج (وزارة الجالية المغربية، مجلس الجالية المغربية، المجلس الأوروبي للعلماء المغاربة) مدعو أكثر من أي وقت مضى لفتح قنوات لحوار جاد سواء في إطار الاتحاد الأوربي أو مع الحكومات الأوربية من أجل خلق مرجعية دينية للجالية المغربية بالخارج تؤسس لإسلام معتدل ومتسامح ينبذ العنف ويدعو للتعايش السلمي بين أتباع جميع الديانات. إسلام يستند إلى مذهب ترعرع بالأساس على الأرض الأوربية وكانت ومازالت مؤلفات العديد من فقهائه مصادر تدرس في الجامعات الغربية.
قاسم أشهبون
رئيس مؤسسة حوار بهولندا