يقع كتاب "أسئلة المواطنة والانتماء.. محاولة في التأصيل التاريخي" للباحث والمؤرخ المغربي أحمد سراج، والذي أصدره مجلس الجالية المغربية بالخارج، في ما يزيد قليلا عن مائة صفحة، ولكنه يتضمن مواضيع بالغة الأهمية، قد لا تفي بمناقشتها مئات الصفحات.
ولا يمكن فهم الدوافع التي حذت بالمؤلف إلى تأليفه بدون الرجوع إلى الظرفية والسياق اللذين أملياه. وقد عبر المؤلف عن ذلك في مقدمة وخاتمة الكتاب، حيث ذكر في ما يشبه الاستغراب، أن التاريخ يشكل في المغرب موضوعا للنقاش العمومي، ولكنه نقاش لا يحترم المعايير العلمية الموضوعية، ويتم في بيئة لم تستوف بعد شروط الحوار المجتمعي الهادئ. وعلى الرغم من غنى تاريخ البلاد وعراقته، يبدو المواطن كأنه غير مكترث به، كما أن الدولة لا تهتم بتمتين عرى المواطنة المغربية في اتجاه التركيز على الانتماء إلى البلد الواحد. ونتج عن ذلك غياب ثقافة تاريخية تؤصل للإنسان المغربي في علاقته بالأرض والجماعة الكبرى التي ينتمي إليها.
عدم الاكتراث بالتاريخ، عبر عنه المؤلف بحسرة في الخاتمة، حين ذكر بالإهمال الذي يعرفه البحث التاريخي في المغرب. يقول: إن واقع البحث التاريخي في بلادنا واقع مر بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فعلى الرغم من عدد الباحثين... ما يزال المؤرخ خارج مسار الزمن الآني.
وتساءل باندهاش عن الفقر في إنتاج الكتب المتعلقة بالتاريخ العام للمغرب، وعدم التوفر على رصد عام لكل المواضيع التاريخية التي خضعت لمعالجة أكاديمية.
لقد وضع المؤلف أصبعه على مكان الداء، وفتح بكتابه هذا مجالا للنقاش، ولإعادة ترتيب الأوراق قبل الشروع في هذا النقاش. ووضع الباحثين المهتمين بحقل التاريخ أمام مسؤولياتهم التي تخلوا عنها طوعا أو كرها، ودعاهم بطريقة غير مباشرة إلى القيام بالدور المنوط بهم، وتصحيح ما تراكم من أفكار لا تمت للتاريخ بصلة، ولكنها متداولة لدى قطاع عريض من الناس من ذوي التأثير المباشر على الرأي العام.
تروج في السوق الإعلامي والثقافي والسياسي مجموعة من الأفكار التي أصبحت قوالب جاهزة وجامدة في نفس الوقت، بل ومسلمات مقدسة، بنيت عليها نظريات وأطروحات ، ومتاريس قوية.
أين المؤرخ من كل هذا؟
في ظل التطور الكبير الذي شهده الإعلام، والإمكانيات الهائلة التي يوفرها الأنترنيت والصحافة الإلكترونية، أصبح بإمكان أي شخص أن يقول ما يريد، ويعبر عن أفكاره في كل شيء، فاختلط الغث بالسمين، ولم يعد بالإمكان التمييز بينهما.
غياب المؤرخ سمح بترسيخ معلومات وأفكار لا تخضع لمحك البحث العلمي، فالمصادر التاريخية تتضمن مادة كبيرة وغنية، حافلة بالتناقضات، وبكل ما يمكن للمرء أن يستشهد به لتأكيد فكرة من الأفكار أو تغليب نظرية أو وجهة نظر، لكن قراءة المصادر والوثائق التاريخية، ليست ميسورة للجميع، فالأكاديمي قادر بخبرته على التمييز بين الصالح والطالح، ووضع الأحداث في سياقها التاريخي، وربط الأسباب بالنتائج، وتحليل النصوص وتدقيقها، واستبعاد ما يمكن استبعاده من الروايات، والبحث في أصول الأشياء وتطورها لتصل إلى ما هي عليه اليوم.
لقد أدى غياب المؤرخ، أو تغييبه إلى تولي الآخرين مهمته، والآخرون هنا، لهم كفاءتهم السياسية والإعلامية ونضالاتهم في إطار هيئات المجتمع المدني، ولكن ثقافتهم التاريخية محدودة، وبدلا من استعانتهم بالمؤرخ، نراهم يلجأون إلى إمكانياتهم الخاصة للتعامل مع التاريخ، فيقعون في أخطاء كثيرة، مثل القراءة الخاطئة للمصادر، والاعتماد دونما تمحيص على ما يجدونه فيها، والاختيار المقصود لكل ما يدعم أفكارهم دون غيرها، وتقويل النصوص ما لا تقول وتحميلها ما لا تحتمل.
لقد لاحظنا منذ سنوات، أن الإعلامي والسياسي والنشطاء الجمعويين، ينوبون عن المؤرخ ويتداولون تاريخا خاصا، لم يسهم المؤرخون في صياغته، كما أن المدرسة لم تستطع أن تنقل للتلاميذ التاريخ الذي تنتجه الجامعة. ولو أتيح لهؤلاء الفاعلين أن يطلعوا على رأي المؤرخين، لتمكنوا من تدقيق أفكارهم، وتأكيد أو تعديل نظرياتهم، ولتمكنوا من التركيز على القضايا الأساسية التي فتح فيها النقاش منذ أزيد من عقدين في المغرب، بالتعرف على أصولها أولا، وفهمها وتطويرها من أجل تعزيز الشعور بالانتماء إلى الوطن الموحد الغني بتعدديته، والمعتز بكل مكوناته.
فكرة هذا الكتاب تنصب في هذا الاتجاه الهادف إلى تصحيح النظرة، وتمكين المهتمين من أدوات تستند إلى التاريخ لفهم ما يتداولونه من أفكار حول المغرب والمغاربة.
انطلق المؤلف من فكرة واضحة، هل يمكن فهم القضايا المعاصرة التي تشغل الناس حاليا بدون الرجوع إلى التاريخ، والبحث في أصولها؟ أليس من المجدي لهم أن يتتبعوا أصول هذه القضايا التي عاشها أجدادهم في الماضي، وتطرقوا إليها وجربوها؟ خاصة أن كل هذه القضايا ليست وليدة اليوم، وما دام الكثير من المهتمين يحيلون إلى التاريخ فليكن ذلك بهدوء وروية واستنطاق للمصادر المختلفة، ومن البدايات، حتى يمكن لنا أن نفهم واقعنا الحالي.
المجال والإنسان والسلطة
لم يدّع المؤلف أنه سيقوم بالإجابة عن كل التساؤلات، والتطرق إلى كل المواضيع الآنية للبحث عن أصولها ولكنه اختار ما اعتبره الأهم وهو البحث في ما سماه مثلث المواطنة: المجال والإنسان والسلطة.
وبعبارة أبسط: ما معنى كوننا مغاربة، وما هو هذا المجال الذي يسمى المغرب، وما هي أصول هذا النظام السياسي السائد الذي هو الملكية؟ ومنذ المنطلق وضح المؤلف أنه سيعود إلى الأصول والبدايات، وفي مجال تخصصه، أي التاريخ القديم والوسيط، للإجابة عن هذه الأسئلة، وبالإضافة إلى هذا المثلث، تطرق إلى اللغة وإلى مفهوم المواطنة. واعتمد في ذلك على اطلاعه الواسع ومصادره المتنوعة وما أنجز من دراسات، قدمها بأسلوب ميسر قريب من القارئ غير المتخصص، متجنبا بذلك اللغة الأكاديمية المغرقة في المهنية والتي يشيح عنها عادة القارئ العادي.
لا أعتقد أن المجال يسمح بالتفصيل في المواضيع التي تطرق إليها الكتاب، وأعتقد أنه كتاب لا غنى عنه لكل من يبحث عن تأصيل القضايا التي تتصل بالسكان المغاربة وبالوطن وباللغة ونظام الحكم، وأي تلخيص لا يمكن أن يوفيه حقه، فالكتاب هو نفسه تلخيص مركز لأهم هذه القضايا في سيرورتها التاريخية، وفي لغة علمية ميسرة، وغنية بالإحالات لمن أراد المزيد من التوسع. ولكنني مع ذلك سأحاول فقط استعراض أهم ما استوقفني في هذه المواضيع في عجالة .
مفهوم الوطن
تطرق المؤلف في أول مباحثه إلى مفهوم الوطن. هذا المجال الجغرافي الذي نسكنه الآن، المغرب، كيف كان في الماضي، وهل كانت له نفس الحدود دائما، وتساءل لماذا لم تنل الحدود حظها على مستوى البحث الأكاديمي التاريخي، بينما اهتم الأوربيون مثلا بهذا الموضوع إلى الآن، وحتى حينما تطرق الباحثون إلى الموضوع اقتصروا في دراسته على الفترة القديمة والمعاصرة دون الفترتين الوسيطية والحديثة على الرغم من أهمية موضوع الحدود خلالهما (فترة اتساع نطاق الفضاء المنتمي للمغرب).
واستعرض بسلاسة موضوع الوطن عبر التاريخ، وتطرق إلى التداخل الواقع في هذا المجال، في ارتباط مع الدول التي حكمت المغرب، مستعرضا بتركيز ودقة كامل التفصيلات التي جاءت في المصادر عن الموضوع. ولا شك أن القارئ سيتمنى لو أنه استرسل للحديث عن الموضوع خلال الحقبتين الحديثة والمعاصرة ، إلا أنه تمسك بمنهجيته التي تتوقف عند الفترة الوسيطية محترما مجال تخصصه، والدائرة التي اختطها لنفسه وهي التأصيل أي العودة إلى الأصول، على الرغم من أن التأصيل لا يعني بالضرورة الفترات القديمة، لأن الأصل يتعرض بدوره للتعديل فيصبح التعديل أيضا تأصيلا تنبني عليه نتائج قد تكون على قدر كبير من الأهمية .
ما معنى أن يكون الإنسان مغربيا؟
في المبحث الثاني، تطرق المؤلف إلى الإنسان، المغربي ، ولعل الكثير من المغاربة يتساءلون ما معنى أن يكون الإنسان مغربيا، وما هي أصول الإنسان المغربي؟ وللإجابة عن هذا السؤال، استعرض المؤلف بتركيز ما راج في المؤلفات القديمة، عن الشعوب التي قطنت المغرب، وأصولها، وعلاقاتها بغيرها من الشعوب الوافدة عليه. فنجد استعراضا لكل المعلومات المتعلقة بهذه الشعوب: سيجد القارئ معلومات مفصلة وهامة عن الليبيين والماكسيز والجيتوليين والميديين /الموريين. محللا ومناقشا ما جاء في النصوص القديمة، عن الموضوع، وحلل روايات التوراة التي تربط أصولهم بفلسطين والمشرق، وما جاء عند الجغرافيين والرواة العرب في نفس الموضوع، وخلص في الأخير إلى أن كل هاته العلاقات ساهمت في تطعيم الأرومة الأمازيغية بدماء حضارية متعددة هي التي تميز اليوم الشخصية المغربية والمغاربية المتعددة الروافد .
اللغة والكتابة وسؤال الهوية
وفي المبحث الثالث، تطرق إلى مسألة اللغة والكتابة وسؤال الهوية، ومما أكد عليه في البداية ضرورة تجنب الخلط بين اللغة والكتابة، وضرب المثل باللغة المصرية التي تعتبر من أقدم اللغات المكتوبة، ولكنها تطورت مع الزمن، وهي الآن لهجة أكثر انتشارا، وبين أن اللغة ليس من الضروري أن تكون لغة أصلية للمتكلمين بها، كما هو حال الإنجليزية عند الأمريكيين مثلا، وأن اللغة ليست أداة تواصل فحسب، إنها تحمل جملة من القيم المتقاسمة بين أفراد جماعة تؤمن بانتمائها إلى نفس الفضاء الثقافي ونفس منظومة الهوية، وهي العامل الأساس في تصنيف الناس وإثبات الانتماء. تطرق أيضا إلى غياب المكتوب عند الأمازيغ، والإشارات الكثيرة عن وجود تراث مكتوب لحقه الدمار أو التلف، وعن ظاهرة التعدد اللغوي القديمة منذ عهد الفينيقيين مستشهدا ببعض الأمثلة من المصادر القديمة، وأرجع تراجع نظام الكتابة إلى هذا التعدد.
واستعرض ما جاء من إشارات عن حرف التيفيناغ، وعن الكتابات البربرية بالخط العربي، وخاصة في العصر الموحدي، الذي كثر فيه التصنيف بالبربرية، ولكن هذا المشروع لم يكتمل.
تعايش المغاربة إذن مع ازدواجية وتعددية لغوية، ولكن لغات الدول المسيطرة حدت من تطور اللغة الأمازيغية من لغة استعمال يومي إلى لغة إنتاج فكري وثقافي، لكن هذا لم يمنع الأمازيغ من الانخراط في الثقافة الإنسانية.
نظام الحكم
في المبحث الرابع، تطرق المؤلف إلى نظام الحكم، واستعرض أنماط الحكم في العالم، منذ القديم، وتوقف عند النظام الملكي، وخاصة عند الرومان، وعن التجارب الملكية في المغرب قبل الإسلام، وما لحق هذا النظام في الإسلام، وتوقف كثيرا عند تجارب الحكم عند العرب في مكة، وفي العهد الراشدي عاقدا مقارنات مع أنظمة أخرى مشابهة في أوربا. وعزا استمرار النظام الملكي في المغرب، وصموده حتى أمام الاستعمار الفرنسي إلى مزجه بين الجانب السياسي والديني.
سؤال المواطنة
وأخيرا تطرق إلى سؤال المواطنة. ما هي المواطنة وما هو الانتماء؟ وعمد أيضا إلى البحث في تاريخ الرومان لتفسير ماهية المواطنة عندهم، ما هي حقوق المواطن؟ وما هي طبيعة الانتماء في المغرب؟ وأكد على أن الانتماء الجغرافي مرتبط بالرقعة أو الحيز الذي كان المواطن يقطنه، وبالقوى التي تسيطر عليه، وهذا المجال لم يكن دائما جغرافيا، فهو بعد وصول المسلمين أصبح مجالا مذهبيا، والانتماء أصبح مبنيا على الولاء، وتساءل عن المواطن المغربي الذي يحمل معه مواطنته خارج المغرب، وضرب أمثلة كثيرة عن مغاربة ساحوا في بلاد الله، واشتهروا بمغربيتهم، وتركوا بصمات في الأماكن التي حجوا إليها، وفي الوقت الحالي فإن قسما كبيرا من المغاربة يوجد خارج الحدود المغربية لكنهم يحملون معهم مغربيتهم إلى أماكن جديدة، وعلى الرغم من حصولهم على جنسيات أخرى فإنهم حافظوا على مغربيتهم، بل وأثروا وأثروا محيطهم الجديد.
الجرأة في المقاربة والمناقشة..
هذه باختصار شديد أهم مضامين هذا العمل، عرضتها بنوع من الاختزال الذي أرجو أن لا يمس بقيمتها، ولعله من المفيد أن أؤكد على أن الكاتب لم يكتف بالعرض والاستعراض لأفكاره وتتبعها في مظانها، والتأصيل لها، بلغة سليمة سلسة، طيعة، وأسلوب مباشر، ولكنه تمكن من الجرأة التي سمحت له بمناقشة ما يعتبر عند البعض احتكارا أو مقدسا، ويحصنه ولا يسمح بمناقشته.
ولعل أوضح مثال على هذه الجرأة ما قاله عن النظام الديمقراطي، في المقدمة، فالنظام الديمقراطي وفروعه هو نظام المجتمع الرامي إلى تحقيق العيش الرغيد لأفراد الجماعة التي يقوم على أمورها، ولو تم ذلك باللجوء إلى التوسع والهيمنة... واكبت ظاهرة الاستعمار الديمقراطية في أثينا، وفي الغرب الأوربي وفي أمريكا حاليا فالديمقراطية هي نظام مجتمع الحرب... وهي تحتاج بالضرورة إلى غريم أو عدو، إن لم يكن في الخارج فيجب أن يكون في الداخل. وتساءل هل الديمقراطية هي أصلح النظم حقا؟
وعندما استعرض أصول المغاربة، خلص إلى أن البحث في مسألة الأصول أصبح بالنظر إلى طول المسار التاريخي للإنسان الأمازيغي، قضية متجاوزة، إن لم نقل خاطئة.
عندما يكون مؤلف ما مصاغا بطريقة مركزة ومكثفة، وطارحا للكثير من الاقتراحات والفرضيات، يصعب تلخيصه أو الإحاطة به، ولذلك لا أظن أنني وفقت في نقل أهم ما في هذا المضمون، إلا أنني أتمنى أن أكون قد وفقت لفتح شهية القراء؛ وخاصة أولائك الذين يحتاجون إلى التاريخ لبناء أفكارهم ونظرياتهم وأطروحاتهم، وأيضا أولائك الذين يرغبون في التعرف على ماضيهم، والاعتزاز بمغربيتهم وانتمائهم إلى هذا الوطن الضارب في أعماق التاريخ.
عثمان المنصوري
أستاذ التعليم العالي في التاريخ الحديث والمعاصر
الكاتب العام للجمعية المغربية للبحث التاريخي