يعود تدريس اللغة العربية في فرنسا إلى ثلاثة قرون خلت. لقد أصبح يُشكل تقليدا ومكتسبات تستحق التأكيد عليها؛ يعود التبريز في اللغة العربية إلى سنة 1906 وإحداث مباراة شهادة الأهلية للتعليم الثانوي إلى سنة 1975 كما تم تكوين عدة أجيال من المستعربين –الباحثين والمدرسين– في الثانويات الكبرى والجامعات بفرنسا. ومع ذلك ورغم الجهود المبذولة، من لدن مختلف المتدخلين في هذا التعليم (مفتشو التربية الوطنية والمدرسون والباحثون- المدرسون والجمعية الفرنسية للمستعربين)، لم تنجح هذه التقاليد بعد في وضع تدريس اللغة العربية على نفس الطريق التي تسلكها اللغات الأجنبية الأخرى في البلاد.
ميلود غرافي
|
تجد هذه المفارقة تفسيرها، بدون شك، في كون اللغة العربية نادرا ما يتم اعتبارها خارج الجانب الديني والهوياتي الذي يُنسب لها. ذلك أن تدريس اللغة العربية غالبا ما كان يُبرر، منذ إحداثه في الثانوية الملكية (كوليج روايال) في القرن السابع عشر بباريس، بقضايا دينية في مرحلة أولى وبقضايا استعمارية في المرحلة الثانية وبقضايا الهوية في أيامنا هذه.
حسب هنري لورانس، الذي يشغل منصب أستاذ كرسي التاريخ المعاصر للعالم العربي بكوليج دي فرانس، "شكلت المسألة الدينية نقطة انطلاق الدراسات العربية في سياق الجدل بين الكاثوليك والبروتستان"1. ففي النزاع، الذي كان يتعارض فيه الكاثوليك والبروتستان، انصب اهتمامهم على اللغة العربية من أجل فك ألغاز النصوص الدينية للكنائس الشرقية والعثور على الحجج الضرورية لاتهام بعضهما البعض بالزندقة والمروق.
رأى النور، في القرن التاسع عشر، جيل آخر من المستعربين تم تكوينه للاستجابة لحاجيات الإمبراطورية الاستعمارية بالجزائر. وكان على مكاتب العرب التي أنشأتها السلطات الفرنسية في الجزائر من أجل تقريب الفرنسيين بالأهالي وتسهيل اندماجهم أن تقوم بإحداث الوحدات العسكرية والمدنية المتمثلة في إداريين فرنسيين ملمّين بالعامية وثقافة اللغة العالمة (العربية الفصحى) أيضا. وبهذا الصدد يؤكد هنري لورانس: "مع مرور الزمن، سيُصبح عدد من هؤلاء الإداريين الاستعماريين علماء كبار"2. ويذكر من بين الأسماء المنحدرة من هذا السلك الاستعماري أسماء مثل شارل بيلا وجاك بيرك.
بعد المرحلة الاستعمارية، وابتداء من السبعينات، تطور تدريس اللغة العربية بفرنسا بارتباط مع مسألة الهجرة. وكما يذكر بذلك برونو هالف (مفتش عام شرفي لوزارة التربية الوطنية): "كان يوجد بفرنسا ضغط اجتماعي، قوي جدا ومُنتشر، وهو ضغط حقيقي غير أنه من الصعب تقديره، تولد عن وجود العديد من التلاميذ من أصل عربي في الإعداديات والثانويات"3. وسيعطي إحداث شهادة الأهلية في سنة 1975، انطلاقة لا يُستهان بها لهذا التعليم. غير أن هذا "الضغط الاجتماعي"، الذي تتزايد قوته في أيامنا هذه، يبقى دائما عرضة لتأويل خاطئ كما أن الأجوبة التي تقدمها التربية الوطنية غير ملائمة للوضعية، حيث يتم من جهة اختزال اللغة العربية في بعدها المرتبط بالهوية، على الرغم من طلب التعلم الصادر عن الأطفال الفرنسيين "الأصليين"؛ ومن جهة أخرى أصبح فتح أقسام لتعليم اللغة العربية نادرا، خوفا من أن يكتسي هذا التعليم طابعا مرتبطا بمجموعة.
تُمكِن الأرقام التي نتوفر عليها من الإلمام بشكل أفضل بهذه التناقضات. فعدد التلاميذ؛ في الإعداديات والثانويات بفرنسا المتروبولية إلى غاية سنة 2006 والتي تتوفر على تعليم في الأقسام؛ بلغ 5500 من المسجلين. لكن المركز الوطني للتعليم عن بعد (CNED) يضم في نفس التاريخ 1800 من المسجلين. إنهم تلاميذ يتابعون دراستهم في المؤسسات التي لا تتوفر على تدريس للغة العربية. ويُشكل ذلك دليلا على وجود طلب قوي لكن العرض يعرف ركودا. وعلينا أن نعلم أن فتح وإغلاق قسم لتدريس اللغة العربية في فرنسا رهين، إلى حد كبير، بقرار رئيس المؤسسة.
أمام وضعية من هذا القبيل، فإن التعليم في الإطار الجمعوي، هو الذي سيستقطب عددا كبيرا من التلاميذ الخواص المحرومين من دروس اللغة العربية في المؤسسات العمومية. ففي سنة 2003، بلغ عدد التلاميذ الذين يتعلمون اللغة العربية في إطار الجمعيات، التي تختزل أغلبها اللغة العربية في بعدها الديني، حوالي 6500.
وكما يؤكد ذلك عن حق، تقرير لجنة التنسيق الجامعي بين أقسام الدراسات العربية ، خلال الذكرى المائوية للتبريز في سنة 2006: "تعبر هذه الأرقام، في الواقع، عن استقالة المصالح العمومية"4.
وبالفعل، كان إدراجُ - أو عدم إدراج - تعليم اللغة العربية داخل المؤسسة (المؤسسات المدرسية والجامعية)، في كثير من الأحيان، نتيجة لرد فعل سياسي إزاء أحداث تربط فرنسا بالعالم العربي. ويؤكد برونو لوفالوا، مفتش عام وزارة التربية الوطنية لتعليم اللغة العربية؛ "اعتقدت السلطات، لمدة طويلة، أن الهجرة المغاربية ستكون عابرة. وعندئذ فتحت السلطات أقساما لتعليم اللغة العربية حتى لا يفقد الشباب ارتباطهم مع ثقافة سيعاد إدماجهم فيها كليا، في يوم ما، حسب اعتقاد السلطات. لكن السلطات العمومية أدركت أن الهجرة، على العكس من ذلك، ستستقر؛ وتم قصدا إغلاق الأقسام باسم مستلزمات الاندماج، في حين أن الطلب لم يضعف"5.
قلما كانت التدابير الرامية إلى تنمية هذا التعليم تستهدف تلبية حاجيات علمية صرفة؛ تدابير يكون فيها اقتراح وإدراك تعلم اللغة العربية، في إطار مؤسساتي، باعتبارها لغة دولية ولغة للثقافة ولغة مهنية. وبهذا الصدد، نُسجل أن إحداث شعبتين دوليتين للغة العربية (في باريس وغرونوبل) يندرج كليا في إطار هذا الاختيار المؤسساتي كما كان ذلك موجودا في مؤسسات من المستوى الرفيع: بوليتكنيك وسان سير والمدرسة الوطنية للإدارة والمدارس العليا للأساتذة ومدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية.
تُعتبر الوضعية في التعليم العالي أقل إثارة للقلق؛ حيث يتم تدريس اللغة العربية في عدة جامعات فرنسية (باريس 3 وباريس 4 والمعهد الوطني للغات والثقافات الشرقية وليون وإيكس/مارسيليا وستراسبورغ وتولوز 2 وبوردو 3 وليل 3 ونانسي ورين ونانت ولوهافر، الخ...). وتتوفر جل هذه الجامعات على شعبة مستقلة للدراسات العربية؛ شعبة تقوم بتكوين الطلبة المبتدئين وغير المبتدئين من السنة الأولى إلى مستوى الماجستير. أما في غيرها فإن العربية حاضرة كاختيار أو كلغة أجنبية تطبيقية. وتُشكل جامعات باريس 4 وليون 3 وإيكس/مارسيليا ثلاثة مراكز تحضيرية لمباراة شهادة الأهلية للتعليم الثانوي والتبريز.
لا مندوحة لنا من الإقرار بأن وجود قطيعة بين التعليم الثانوي والجامعي، في مجال تعليم اللغة العربية، أمر مدهش. فلئن كانت عدة جامعات مضطرة -لتكوين مبتدئين حقيقيين لمواجهة الطلب- فإن مرد ذلك هو كون تعليم اللغة العربية ليس حاضرا بما يكفي في التعليم الثانوي.
نُسجل أيضا أن تصور تعليم اللغة العربية، الذي يتم في بعض الجامعات، يبقى إلى حد كبير مطبوعا بالإحالة إلى الهوية، سواء في نظر المُسيرين أو في صفوف العديد من المدرسين على حد سواء. أسوق هنا واقعة تكتسي دلالة بهذا الصدد: خلال اجتماع مع رئاسة جامعة تولوز 2، مُخصص لشعبة اللغة العربية التي كنت أديرها (ما بين 2004 و2006)، عبر نائب رئيس مجلس الإدارة عن رغبته في أن تضاعف جهودنا المبذولة في مجال تعليم اللغة العربية لأن جامعتنا، حسب رأيه، "توجد في حي صعب"، ولأنه علينا، في إطار هذه الشعبة، الاضطلاع بدور "أكثر أهمية مما هو عليه الأمر بالنسبة للغات الأخرى". أليست هذه أيضا رؤية اختزالية، بل وحتى خاطئة للغة العربية؟ وهي رؤية تُسنِدُ إليَّ كمدرِّس اللغة العربية، مهمة حل المشاكل الاجتماعية في الأحياء الصعبة!
وقعت البلدان المغاربية الثلاثة (الجزائر والمغرب وتونس)، في الثمانينات، اتفاقية مع فرنسا لتعليم اللغة العربية في إطار تعليم اللغة والثقافة الأصليتين (ELCO)، وذلك للرد، جزئيا، على هذا التصور الإيديولوجي للغة العربية ولأسباب ترتبط دائما بالهوية. وهو رد فعل يبقى مع ذلك رد فعل مرتبط بالجماعة. وأمام تنامي تيارات الهجرة نحو فرنسا، منذ نهاية السبعينات، اعتبرت هذه البلدان الثلاثة من الضروري تلقين اللغة والثقافة العربيتين لأبنائها المقيمين في فرنسا. وفي الأصل، كان تعليم اللغة والثقافة الأصليتين (ELCO) إعدادا لهؤلاء الأطفال للعودة إلى بلدهم الأصلي. وهي عودة لم تتمّ أبدا. وهنا أيضا، تبقى المفارقة مثيرة للحيرة: ففرنسا والبلدان المغاربية الثلاثة، مع وعيها بأن الأسر المهاجرة لن تعود أبدا إلى بلدانها الأصلية، استمرت مع ذلك في الإبقاء على تعليم اللغة العربية في إطار تعليم اللغة والثقافة الأصليتين. وحسب تقرير للجنة التنسيق الجامعي بين أقسام الدراسات العربية CIDEA يبلغ عدد التلاميذ الذين يتابعون دروس اللغة العربية في هذا الإطار حوالي 37.000، منهم 22679 بالنسبة للمغرب و9528 بالنسبة للجزائر و4172 بالنسبة لتونس.
لم يبق صالحا على المستوى الثقافي، من بين الأهداف المتوخاة من نهج سياسة تعليم اللغة والثقافة العربيتين، سوى الهدف المتمثل في الروابط الهوياتية والثقافية التي ترغب البلدان الأصلية في المحافظة عليها مع أبنائها المهاجرين. لكن، هل العربية الفصحى كافية للقيام بهذه المهمة؟ ما هي وضعية اللهجات واللغة الأمازيغية؟
يتعيّن على هذه الدروس، لكي تكون مفيدة، أن تأخذ بعين الاعتبار في نفس الوقت التحولات الجديدة لواقع الهجرة وتنوع المشهد اللغوي في المغرب الكبير، وبالتالي العمل من أجل إنجاز مهمة متوازنة تتمثل في تحسيس الأطفال المنحدرين من الهجرة بثقافة بلدهم الأصلي من دون أن يتم اقتلاعهم من ثقافة البلد الذي يعيشون فيه. وبدون هذا، ستكون النتائج كارثية.
فكما نتبيّن ذلك، إن تدريس اللغة العربية في فرنسا، خاصة في الابتدائي والثانوي يعكس، منذ مدة طويلة، صورة فشل سياسة الهجرة، وإن تصورا جديدا يتم تخليصه من جميع الأفكار المسبقة التي تختزل اللغة العربية في بعديها الديني والهوياتي؛ لهو التصور الوحيد الكفيل بتمكين تعليم اللغة العربية بفرنسا، من الازدهار والتطور إلى جانب اللغات الدولية الأخرى.
ميلود غرافي
أستاذ باحث بجامعة تولوز 2 وملحق بكلية سان سير كواتكيدان، فرنسا
ملحوظة: هذه الدراسة المترجَمة من الفرنسية إلى العربية هي في الأصل مداخلة للأستاذ ميلود غرافي في ندوة "اللغات في الهجرة: التحولات والرهانات الجديدة"، التي نظمها مجلس الجالية المغربية بالخارج بالرباط يومي 24 و 25 يونيو 2010، وقد صدرت أشغالها في كتابين باللغتين العربية والفرنسية.
الهوامش
1- Henry Laurence, l'orientalisme en France, mise en perspective, in Le centenaire de l'agrégation d'arabe, les Actes de la DGESCO, CRDP, Versailles, 2008, p. 23..
2- نفس المصدر المذكور، ص 25.
3 - Bruno Halff, Les concours de recrutement du secondaire en arabe in Le centenaire de l'agrégation d'arabe, op.cit., p. 59.
4- Luc-Deheuvels et Joseph Dichy, la « masse manquante » : l'offre du service public et les enjeux de l'enseignement de l'arabe en France aujourd'hui (rapport du CIDEA), in Le centenaire de l'agrégation d'arabe, op.cit., p. 90.
5- Le Figaro Magazine, 25 juin 2005.