من التحديات المطروحة على السياسات العمومية الإجابة على انتظارات المواطنين المغاربة المقيمين بالخارج أخذا بعين الاعتبار خصوصيات الأجيال الجديدة وثنائية مرجعيتها الهوياتية والثقافية إضافة إلى مختلف خصوصيات السياقات التي يعيشون فيها في بلدان الإقامة.ولا شك أن الإشكاليات الثقافية ومسألة الدين وتعليم اللغات والثقافة المغربية للشباب المنحدر من الجاليات المغربية تستحق تعميق النقاش لتطوير المعرفة بهذه القضايا من خلال إشراك المسؤولين سواء في المغرب أو في بلدان الإقامة وهيئات المجتمع المدني في بلدان الإقامة. وقد لوحظ مدى الاهتمام الذي أولاه مجلس الجالية خلال السنوات الماضية من خلال العديد من الندوات المنظمة والتي أصبحت أعمالها منشورة باللغتين العربية والفرنسية بالإضافة إلى اهتمامه بتطوير النقاش العمومي حول مسألة الهوية والعمل موازاة مع ذلك على تشجيع وتثمين تنوع الإنتاج الأدبي والفني للجاليات المغربية من خلال العديد من المعارض ودعم إبداعات مغاربة العالم.
ضرورة مراجعة المقاربة التقليدية في التأطير الديني المتبعة من طرف الحكومة
فعلى الرغم من الجهود التي تبذلها الدولة المغربية لتوفير تأطير ديني ملائم للجالية المغربية بالخارج، يلبي حاجيات أفراد الجالية ويمكنهم من ممارسة شعائرهم الدينية، ويضمن لهم الأمن الروحي في ظل المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية كما مارسهما المغاربة عبر التاريخ وولاءهم للسلطة الروحية الممثلة في إمارة المؤمنين، فإن النتائج المحصلة لا ترقى إلى مستوى الانتظارات. فإذا كانت الحكومة المغربية تخصص 120 مليون درهم للتأطير الديني الموجه للجالية المغربية، فإن هذا الاستثمار لم يؤد إلى النتائج المتوخاة كما يبرز ذلك من خلال جملة من الوقائع. فخطر التشيع بات أكثر حضورا خاصة وأن بعض المساجد المغربية في بلجيكا، مثلا، ما فتئت تكرس الخطاب الشيعي. كما أن العديد من المساجد في العديد من الدول الأوروبية أصبحت خاضعة لتأثير جماعة متطرفة. وقد لاحظنا في الآونة الأخيرة كيف أن الشباب المغربي في بعض الدول ينتقل إلى بعض بؤر النزاع بدعوى "الجهاد". ولا شك أن الوضع الحالي كان وراء تزايد الدعوة إلى تكوين أئمة المساجد داخل أوربا. كما تصب جملة من التقارير في التحذير من خطورة الوضع الناجم عن تبني الكثير من أئمة المساجد لأجندة "مجموعات سياسية إسلاموية" من خارج الفضاء الأوربي. وتوصي هذه التقارير بضرورة تكوين الأئمة داخل أوربا بغرض تعريفهم بالسياق الأوربي والميكانيزمات التي تنظم المجتمعات الأوربية، وتقريبهم من طبيعة العلاقة بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية في الثقافة الغربية عموما.
ونظرا لحساسية الموقف وللخطورة التي قد يشكلها الاستمرار في دعم التأطير الديني للجالية المغربية بالشكل الحالي، تبدو الحاجة ملحة إلى مراجعة السياسة المتبعة في أفق تجنب ما قد يحدث من نتائج عكسية لا تخدم مصالح الجالية والمصالح العليا للمغرب. ولا شك أن التركيز على تأهيل وتكوين الفاعلين الدينيين في بلدان الإقامة يعتبر أحد المداخل الأساسية لمعالجة الوضع.
تدريس اللغة والثقافة المغربيتين في فضاء الهجرة
يندرج تدريس اللغة العربية والثقافة المغربية ضمن اهتمامات الدولة المغربية كما يتبيّن ذلك من خلال تعبئة موارد مالية، واستقدام المرشحين وتكليف مؤسسة الحسن الثاني بتدبير الملف تحت إشراف السفراء والقناصلة. ويعتبر هذا ملف من الملفات القليلة التي لم تعرف مراجعة نظرا لسياقاته الخاصة. وكان ذلك أحد العوامل التي أثرت سلبا على تطوراته في السنين الأخيرة بعد أن أصبح الملف محل مزايدات من قطاعات نقابية، وبالتالي، ثمة رهان على نوع من المراجعة الشاملة أو الجزئية، والتي من شأنها أن تجعل البرنامج أكثر تلاؤما مع تحديات الواقع الأوروبي اليوم.
إن مقاربة تعليم اللغة لدى أفراد الجالية يجب أن تأخذ بعين الاعتبار التعدد اللغوي للمجتمع المغربي الذي يعكس التنوع والتعددية الثقافية والإثنية للمجتمع المغربي، خصوصا وأن التطورات التي عرفها المغرب خلال العشر سنوات الأخيرة سارت بخطى وئيدة نحو دعم الحقوق الثقافية ومن ضمنها الحقوق اللغوية التي كرسها دستور 2011. فالاهتمام بهذه الحقوق وتكريسها دستوريا يعد من أسس بناء المجتمعات المعاصرة التي تسود فيها قيم التعدد والحوار والوفرة الثقافية. وبالإضافة إلى ذلك يعتبر الشخص المهاجر أو المنحدر من فضاء الهجرة حاملا ومجسدا لقيم التعددية الثقافية بامتياز ومؤهلا بفعل وضعه للعب دور الوسيط الثقافي بين المجتمعات، أو على الأقل بين مجتمعه الأصلي ومجتمع إقامته.
تتطلب المرحلة الحالية، وبموازاة مع التحولات الديموغرافية والسوسيوثقافية التي تعرفها الجاليات المغربية بالخارج، إعادة النظر في الخدمات التي توفرها الدولة لمغاربة العالم بشكل يسمح بجعلها أكثر استجابة لحاجيات تلك الجاليات، وأكثر استشرافا للتطورات التي ستعرفها مستقبلا. فهناك اليوم شعور بنوع من الإحباط في سياسة تدريس اللغة العربية خاصة عندما نلاحظ المعاناة التي يولدها البرنامج لدى الفئات المستهدفة الرئيسة، والفاعلين الممثلين في المدرسين، ولدى المسؤولين والفاعلين في بلدان الإقامة، على حد سواء.
ولا يمكن مقاربة العرض المقدم دون استحضار الدينامية التي تعرفها الهجرة والتحولات الكبرى التي تشهدها الجالية المغربية المقيمة في الخارج. وكل معالجة لهذا العرض والتفكير في مستقبله يجب أن يأخذ بعين الاعتبار ثلاث مكونات:
· انتظارات الجاليات المغربية المقيمة في الخارج على ضوء دينامياتها المتواصلة.
· التأمل في الحصيلة العددية والنوعية لما يقرب من ربع قرن من السياسة المتبعة في هذا المجال وهو ما توفره التقارير التقييمية المغربية والأوروبية.
· التأمل في السياق العام الحالي المتميز بتحولات فضاء الهجرة ومواقف دول الإقامة من تعليم اللغة والثقافة الأصلية للمتمدرسين المنحدرين من المغرب.
فتحليل وضعية برنامج التدريس يجب أن يأخذ بعين الاعتبار من الآن فصاعدا التحولات الجديدة للجالية والتي تتجلى على الخصوص في اتجاهها أكثر فأكثر إلى التجذر في البلدان التي تقيم فيها والتي تشكل أجيالها الأكثر حداثة جزءا لا يتجزأ من مواطنيها. يعني ذلك أن الأساس الذي بنيت عليه سياسة تدريس اللغة والثقافة العربية في بدايته لم يعد قادرا على مواكبة التطورات التي تعرفها جاليات مغربية تعيش تحولا مستمرا في مجتمعات تتقاسمه مع جاليات منحدرة من أصول أخرى غير مغربية بالإضافة إلى المواطنين الأصليين.
إن أية مقاربة لسياسة تدريس اللغات والثقافات الوطنية لأبناء الجاليات المغربية بالخارج يجب أن تأخذ بعين الاعتبار مطالب أفراد الجالية المغربية (الآباء)، وانتظارات الفئة المستهدفة بشكل مباشر (المتمدرسين)، وسياسات بلدان الإقامة، ومصالح الدولة المغربية. كما أن عليها أن تعالج معادلة صعبة تحاول الجمع بين ضرورة الحفاظ على الروابط الثقافية بين مغاربة العالم وبين وطنهم الأصلي، وتشجيع اندماجهم الكامل في البلدان التي أصبحوا يمثلون جزءا من مواطنيها.
ومن جهة أخرى، أضحى الطابع المتعدد للفضاء اللغوي المغربي (العربية، الدارجة المغربية بمختلف تقسيماتها الجهوية، الحسانية، الأمازيغية بأقسامها الثلاثة) واقعا يكرسه الدستور الجديد للمملكة. وهو واقع يعكس تعدد مستويات الهوية المغربية التي تنتج عنها مطالب معينة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في مقاربة مسألة تدريس اللغة والثقافة المغربيتين لأبناء أفراد الجالية.
ويستنتج من ذلك كله أن على المغرب أن يبادر إلى مراجعة سياسته الخاصة بتدريس اللغات والثقافات الوطنية لأبناء الجاليات المغربية بالخارج على مستوى مضامين التكوينات المقترحة، وبرامج التدريس ومناهجه، والبيداغوجيا والحكامة، سعيا إلى ضمان جودة ونجاعة التكوين، وملاءمته مع واقع الأطفال المغاربة بالخارج، حتى يستجيب بذلك للانتظارات الحقيقية للفئات المستهدفة.