"معرفة وآراء" زاوية مفتوحة في وجه الباحثين والمختصين في قضايا الهجرة ومتعلقاتها لعرض آرائهم ووجهات نظرهم وفتح باب النقاش بخصوص مختلف الأسئلة المتصلة بهذه القضايا..

"معرفة وآراء" أفق لبناء حوار هادئ ومسؤول قادر على بلورة مقاربات تتسم بالعمق والدقة والصدقية.

على هامش اليوم الوطني للجالية المغربية: جيل يحتاج إلى تكريم

قاسم أشهبون  رئيس مؤسسة حوار بهولندا قاسم أشهبون رئيس مؤسسة حوار بهولندا

الآن، وأفواج جاليتنا المقيمة بالخارج تتقاطر على المغرب (برا وبحرا وجوا) لقضاء عطلة الصيف (أو تغادره) تحضرني صورة عمرها يناهز35 سنة.

كانت جاليتنا تطوى طوال السنة (الهجرية والميلادية على السواء) في غياهب النسيان، فإذا جاء الصيف، إذا بلافتة يعاد تعليقها للمرة لا أدري كم فوق بناية البنك الوحيد آنذاك بمدينة ميضار (الناظور) كتب عليها: مرحبا بعمالنا في الخارج. وداخل هذا البنك الوحيد كانت توضع طاولات صففت عليها قناني مشروبات غازية أتذكر منها بالخصوص بيبسي كولا وماركتين لم يعد لهما وجود جغرافي البتة: كروش ولاسيكون. وكنا ونحن تلاميذ ننظر بعيون الحسرة والرهبة في آن إلى تلك القناني التي لم تكن موجهة إلينا بأية حال من الأحوال. وهكذا كانت لافتة وبضع قناني من المشروبات الغازية كافية بل وأكثر من كافية للتعبير عن مدى فرحة السلطات المسؤولة وشبه المسؤولة في ذلك الزمن الغابر بقدوم (عمالنا في الخارج).

وعندما يأتي الصيف، ومعه عمالنا في الخارج، كانت تطرأ في المنطقة حركة نشيطة. وهكذا، ودون سابق إنذار، تنشط أوراش للتنمية في المنطقة كلها، حتى قبل أن يتم اختراع مصطلح الأوراش (أو استعماله على الأقل بشكل واسع كما هو عليه الأمر الآن): أراض تستصلح، وطرق تعبد، ومنازل جديدة تبنى، ومساجد ترمم، وسيارات لا عهد لنا بها تجوب الشوارع والطرقات المتربة، وتزدحم الأسواق الأسبوعية بشكل ملفت، وفجأة يصبح لنا عمال في الداخل أيضا وفي جميع التخصصات والحقول، و...و...

وقد كان وصول مهاجر (أو أكثر) إلى مدشرنا (إكردوحن) في حد ذاته حدثا وأي حدث. يخرج الجميع لاستقبالهم استقبال الأبطال، وقد كانوا كذلك. وفي المساء يقوم المهاجر بتنظيم حفل عشاء. حيث يجلس المدعوون مشرئبين بأعناقهم فاغرين أفواههم من الدهشة والإعجاب حول سندباد القرن العشرين وهو يقوم بسرد مغامراته في أوربا، هذا العالم السحري الجذاب، الذي كان يتجاوز إدراك سكان الدوار البسطاء.

إنني أتحدث هنا عن سنوات السبعينيات من القرن الماضي وعن جيل من المغاربة أخذ -وفي غفلة من الزمن- زمام المبادرة لتحسين وضعيته الاقتصادية والاجتماعية عن طريق الهجرة إلى ما وراء البحر. جيل تمكن -رغم عائق اللغة والثقافة والدين- من التأقلم ضمن محيطات غريبة عنه والاندماج داخل مجتمعات تختلف اختلافا هيكليا عن المجتمع الذي جاء منه. كان المهاجرون المغاربة يحظون بسمعة طيبة لدى المواطنين وأرباب العمل الأوربيين لما كانوا يتمتعون به من انضباط وتفان في العمل. شاركوا أبناء البلد في بناء ما خربته الحرب العالمية الثانية، ساهموا في التنمية الاقتصادية للمناطق التي ينحدرون منها بل وفي الاقتصاد المغربي ككل. استقدموا أسرهم أو أسسوا أسرا جديدة هناك. وأصبحوا مواطنين كاملي المواطنة في بلدان الاستقبال. أسسوا مساجد وجمعيات ثقافية ورياضية، شاركوا في الحياة السياسية، وبدؤوا مشاريع تجارية... وجودهم أضاف قيمة إلى المجتمعات الأوربية لا يمكن نكرانها البتة، وفي جميع المجالات (حتى السلبية منها). هذا دون أن يتنكروا لأهليهم وذويهم الذين خلفوهم وراءهم أو يديروا ظهورهم لوطنهم. رغم أن تضحياتهم لم تكن دائما تلاقى في تلك الفترة بالتقدير اللازم، هذا إذا ما استثنينا طبعا استقبالهم خلال فصل الصيف بلافتات وقناني من المشروبات الغازية.

وتمر السنوات ليكتشف الوطن أهمية جاليته في الخارج. فأنشئت وزارة ومؤسسات ومجلس لها وباسمها، تم توسيع التمثيليات القنصلية وتقريبها من محال سكناها في بلدان الاستقبال، تم إشراكها في انتخابات برلمانية وإن كان لمرة وحيدة. تم تزويدها بمعلمين لتدريس اللغة العربية للأجيال الصاعدة هناك من أجل الحفاظ على هويتها وثقافتها، تم تحسين ظروف استقبالها وتوديعدها خلال عطلة الصيف...

هل تعني هذه الإنجازات أن الوطن يكون بذلك قد قام بواجبه كاملا تجاه أبنائه في الخارج وأراح ضميره وأنه لم يعد في الإمكان عمل أحسن مما كان أو هو كائن؟ طبعا لا، فمازال هناك الكثير والكثير مما يجب فعله أو تفعيله. والمجال لا يسمح لعرض التحديات والإكراهات الكثيرة التي تواجهها الجالية المغربية المقيمة في الخارج وعلى جميع الأصعدة. وفي نفس الوقت هناك أمام الجالية المغربية آفاق كثيرة داخل وطنها من أجل توظيف واستثمار –ليس أموالها فحسب- بل وأيضا أفكارها ومعرفتها وخبراتها التي اكتسبتها في بلدان الإقامة.

لقد شكل دستور 2011 (الذي لم تقل نسبة الترحيب به لدى مغاربة العالم عن مثيلتها لدى مغاربة الداخل) منعطفا جديدا في تاريخ المغرب. وقد قام ولأول مرة بالتأكيد حرفيا على أهمية ودور الجالية المغربية المقيمة بالخارج واعتبار مغاربة العالم مواطنين كاملي المواطنة يتمتعون بجميع الحقوق التي يتمتع بها مواطنو الداخل (والواجبات طبعا). والآن، والدستور الجديد يقترب من دخوله السنة الثالثة على إقراره، تترقب الجالية المغربية بشغف تفعيل مضامينه، مما سيفسح المجال واسعا لاستفادة المغرب من كفاءات ما يزيد عن أربعة ملايين من أبنائه الموزعين في أرجاء العالم.

وأخيرا، ونحن نحتفل باليوم الوطني للجالية المغربية، لا يسعنا إلا أن نقف أمام رواد الجيل الأول من المهاجرين وقفة امتنان وعرفان للتضحيات التي قدموها لأسرهم ومناطقهم ووطنهم.

قاسم أشهبون - رئيس مؤسسة حوار بهولندا

 

الصحافة والهجرة

Google+ Google+