غرضنا من هذه المداخلة هو محاولة توضيح الرؤية و إبراز معالم جملة من العناصر التي تشكل صورة المرأة المغتربة في إبداعات السينمائيين الألمان، و هذا لن يتحقق إلا بمعالجة ثلاثية الابعاد : معنى الصورة في الثقافة و اللغة الألمانية، و ماهية المرأة كمفهوم مجتمعي، و صورة المرأة المغتربة في السينما الالمانية.
تتشكل الصور كما تتشكل الصناعات وفق قواعد وسلسلة من المراحل الفنية التي تدخل فيها عوامل عدة. وتوظيف الصور في توجيه العقول أو اللعب على حبل العواطف الانسانية، أو الارتقاء بالمعرفة والذوق الجمالي والفني الجمعي، هو في ترابط وثيق مع مسلسل صناعة الصور.
والكلام في صورة المرأة المغتربة أو المهاجرة في السينما الالمانية لا يختزل في عمل أو مجموعة أعمال سينمائية بقدر ما هو نتيجة ترابط مجموعة من المراحل والقواعد في بيئة مجتمعية جرمانية تؤثر على المنتج المبدع والمتلقي.
في الحديث الالماني عن الصورة
حين أطلع على بعض المفاهيم والقراءات الالمانية حول الصورة أتوقف عند الماهية كمفتاح لفهم هذا العالم المدهش والعجيب والخلاب. الصورة في السياق الالماني لغويا وثقافيا (das Bild) ترتبط بالرغبة في التثقيف والتعلم والارتقاء وبناء الشخصية الانسانية. الصورة بيان ومجاز وأسلوب إبداعي خلاق. الصورة هي نحت للمكان والزمان. الصورة ثقافة وخلفية وتربية.
نكتشف الصورة كرؤية وتصور وتخيل واستعارة. الصورة في اللغة الجرمانية تحيل على ذلك الإنسان الذي يشكل و يعلم و يهذب، فكل هذه الافعال مصدرها هو الفعل الالماني bilden . تجد الصورة بعضا من علاماتها في السياقات الجرمانية كالآتي:
(bilden- das Bild - der Reise bildet Menschen- diese Person ist gebildet-Bildung- Bildhauer/rin ect…)
في سؤال ماهية المرأة
صورة المرأة ليست هي تلك الهوية القائمة على لغة الفصل بين جنسي الرجل والمرأة. الهوية الانثوية لا تقاس على اختلافات بيولوجية بين الجنسين، وإنما على اختلافات ثقافية محضة، فالكثير من السمات والصفات اعتبرت عبر التاريخ وجود خاصيات أنثوية طبيعية، وهي ليست إلا صفات مكتسبة تقمصتها النساء عبر سيرورة ثقافية معقدة. وفي العديد من الابحاث هناك تأكيد على غياب مفهوم المزاج الأنثوي (أبحاث ماركريت ميد على سبيل المثال لا الحصر).
وماهية المرأة في المجتمع الالماني فهي محكومة بتاريخ ثقافي وسياسي ومجتمعي وبتراكمات حضارية، وبسياق خاص يجعلها مختلفة عن المفاهيم والأحكام التي تشكل بناء صورة المرأة في مجتمعات مغايرة عن خصوصية المجتمع الالماني.
الصورة ولعبة البناء
الصورة تخضع لقوانين التركيب، فكل واحد منا يصنع صورة عن ذاته و عن الغير . نظرية الواقع أو الخيال تفيد بأنه ليس هناك واقع أو خيال محض / أصلي. فهل نعيش أسطورة الكهف حتى لا نرى سوى الاشباح عوض الحقائق ؟ تساؤل نجد مادته الخصبة في التقاطع الخفي و اللاشعوري بين الواقع و عناصر الخيال الإنساني. الواقع يركب رغبات و انتظارات و عواطف نسقطها على ذلك الواقع .
صورة المرأة المغتربة
منذ سنوات الستينات ومع موجة الهجرات إلى المانيا في سياق ما سمي آنذاك باستقبال العمال الضيوف Gastarbeiter die الذين ساهموا في بناء المانيا المدمرة بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت السينما الالمانية تهتم وتعالج موضوع المرأة المغتربة والمهاجرة في سياق المجتمع الذي أتت منه (المرأة التركية على وجه الخصوص نظرا للحضور الكمي القوي للجالية التركية في ألمانيا).
والإطلاع على سلسلة من الاعمال ألسينمائية التي تعالج السؤال النسائي أو موضوع المرأة المغتربة، يصل بنا الى جملة من الخلاصات الأولية من بينها نذكر: غياب المساواة الوجودية، المرأة في الصورة التركيبية ترتبط بالمطبخ، و لا تتحدث اللغة الالمانية جيدا، و تعاني من التمزق الهوياتي ، و هي هاربة من مجتمعها من أجل أن تعانق الحرية في مجتمع مغاير (المجتمع الألماني).
و بناء على محاولة لبناء خطاطة أولية لصورة المرأة المغتربة في السينما الالمانية، عثرنا على عدد من العناصر المشكلة لهذه الصورة : الخوف من الاجنبي في المجتمع الالماني، و خضوع المغتربة لبنية سلطوية، انتمائها إلى مستوى اجتماعي متدني، الخطر الذي يستتبع حضورها واكتشاف الحقيقة قبل حمايتها، ثنائية علاقة النحن بالغير التي ينتعش من خلالها الاعلام الالماني الذي يعرض هذه الافلام ، كما أن هناك مواجهة سينمائية بين المجهول و المعلوم، و تقديم الغريبة و المغتربة انطلاقا من قواعد مجتمعها الذاتي، ما يسمح بحضور ثقافة الذات أكثر من ثقافة المغتربة . هناك أيضا عناصر لتقديم المغتربة أو المهاجرة سينمائيا انطلاقا من لون شعرها ولغتها وجمالها المختلف ...
هذه القراءة التي تؤسسها الصورة النسائية للمغتربة / المهاجرة في السينما الالمانية لا تلغي جماليات و عناصر وجهة نظر المغايرة للمخرجات و المخرجين الالمان الناقدة للذات، كما نجدها في فيلم عرس شيرين لمخرجته ايلينا زاندرز (اغتصاب و تحرش ألماني بالمغتربة التركية الباحثة عن حبيبها التركي محمود )، و هي تحاول التخلص من القوالب و الاحكام الجاهزة .
إن السينما ليست مضامين لغوية فقط، بل هي كذلك أبعاد جمالية وفنية تلعب فيها الصور والجسد والايماءات و حروف الفنون المختلفة دورا في عملية البناء، و هي عملية تستحضر جواهر العمق المجتمعي التي تشكل فيها الهجرة عنصرا غريبا، نشازا في بعض الأحيان، و سؤالا مؤرقا في أحيان أخرى. المعالجة السينمائية لصورة المرأة المغتربة لم تكن دون منزلقات ومصاعب التي هي جزء لا يتجزأ من طبيعة العمل الفني السينمائي.
*نص المداخلة التي ساهمت بها في ندوة صورة المرأة ، من الإدانة و الانفعالية الى التأسيس العقلاني للمناصفة والتي نظمت يوم 24 سبتمبر 2014 في اطار فعاليات المهرجان الدولي لفيلم المرأة في سلا .
* نقصد الأعمال السينمائية التالية : أندوني، وطن غريب، من إخراج سميرة رادسين انتاج 2011- عرس شيرين من إخراج ايلينا زاندرز، إنتاج 1975 - معقل الخطيئة فيلم وثائقي من إخراج توماس لاوتر باخ، انتاج 2008 - ياسمين من اخراج هارك يوم ، انتاج 1988 - الغريبة من إخراج فيو الاداك، انتاج 2010 - ثلاثة أرباع القمر من اخراج كريسيسان تسوبارت انتاج 2011 - رحلة الأمل من اخراج كزافيي كولر، انتاج 1990 .
محمد نبيل صحافي، وسينمائي مقيم في برلين
*ينشر هذا النص باتفاق مع صاحبه