مهاجرون نحن عن وطننا. ومهاجر هو فينا. حاضر فينا أينما مدتْ رياحُ القدر أشرعة سفن أحلامنا وحيثما رسى طموحُنا مؤقتا؛ فإن المرسى النهائي الذي نريده هو ذلك الحيز الجغرافي. على أديمه وُلدْنا وفوق رماله أو بين جباله أو على ضفافه ترعرعنا و إليه نريد أن يكون المآب.
لم نترك الأهل والأصحاب. ولم نغادر المنكب البرزخي كرها له ولا طلبا لوطن سواه فهو الوطن الكبير في أعيننا دائما، لكن أسبابا كثيرة أجبرتنا وظروفا صعبة قيدتنا فيه، ومنحتنا حرية التحليق في سماوات سواه من أصقاع الكوكب الأخضر، ما استطعنا إليها سبيلا.
تمسكنا بالبقاء فيه حتى كلت أيادينا وضممناه إلينا خوفا من الفراق. كما تضم البكر مولودها الوحيد وقد أيقنت أن عصابة جاءت لاختطافه وبيعه لذي عُقمٍ في بلد لا تعرف أين خُطتْ حدودُه الجغرافية.
كثيرون من أبناء الأوطان المستلبة هاجروا وآخرون لما يلحقوا بهم حبسهم العذر، لكن أعناقهم مشرئبة دائما لهجرة أجسادههم وبقاء قلوبهم في رقعة، يكبر عليها أن أبناءها باتوا على أمنهم لديها يخافونها، وعلى عشقهم لها يعافونها. لا وألف لا ما كره الطائر عشه ولا هجر الغزال وكره، لكنه الخذلان علم أبناء الأوطان أن يتركوها. ليس خذلان الأوطان لأبنائها، فهي لا تخذلهم ولا تضيق عنهم أبدا ما اتسعت أحلامهم. إنه ولد غير صالح يوجد دائما في الأوطان ليحيد بها عن سواء السبيل التي عليها عبورُها فيسلك بها سبل الفساد والتأخر حتى تتخلف عن الركب وتخرج قرية التقدم التي باتت الدول تتنافس على حجز أكبر أماكن لها فيها.
آسف أنا حقا يا وطني. فالبطالة والتهميش وعدم المساواة ونهب الثروات وغيرها من مظاهر الفساد المستشري في البر والبحر بما كسبت أيدي المسؤولين غير المسؤولين طردتني منك مجبرا غير راغب. طردتني وأنا الذي كما غيري كثرٌ تمنوا أن يُسَخرُوا معارفهم وقدراتهم لخدمتك وأنتَ في أمَّسِ الحاجة إليهم، بَدلَ منحها مجانيا لدول أخرى سرقتهم منك وحق لها ذلك. فقد جاؤوها يتلفحون نار المحسوبية والجهوية لا تُعتبرُ قدراتُهم ولا تُستغل معارفُهم. تَراهم تائهين في شوارع العاصمة تعلو وجوههم حسرة ولباسهم غبرة. لم يجدوا فرصة يقدمون فيها شيئا لوطن يُحال بينهم وبينه.
وطني الحبيب. سيكون مخطئا من أظن أن أبناءك في مهاجرهم القاصية أو الدانية ابتغوا بهجرتهم عيشا خارجك. هم الذين ما أحبوا سوى الرجوع إليك. كل شيء فيك يغري بالعيش فيك حين ننظر إليك كوطن. إلا أن كل شيء يجبر على الرحيل عنك حين ننظر إليك كدولة. ومع ذلك كله فالطير لا بد أن تعود إلى وكناتها قبل الليل، بيد أن المشكلة في موريتانيا أن تلك الطيور حين تعود في الليل تتحول إلى طيور ليلية، فتهاجر عن الوطن دون أن تشعر مرة أخرى. هي تلك دورة القدر في وطن يأخذ مداره بين الموج والرمال.
عنفار ولد سيدي الجاش، صحافي موريتاني بإذاعة البحر الأبيض المتوسط الدولية Medi1
ينشر هذا المقال باتفاق مع صاحبه