ونحن على مشارف اليوم الوطني للمهاجر تكثر الأنشطة حول الهجرة ومغاربة العالم، والتي تناقش مجموعة من القضايا التي تهم خمسة ملايين أو أكثر من الجالية.. عبر هذا المقال أريد أن أتوقف عند سؤال يطرح بشدة، و يتعلق الأمر بما ينتظر منا كجالية لخدمة الوطن، إذ يتزايد الحديث مؤخرا عن ضرورة إشراك جميع المواطنين المغاربة في كل الأوراش المفتوحة كيفما كانت نوعيتها.
هذه المشاركة تخص أيضا مغاربة المهجر، و التي ينص عليها دستور 2011 وتعتبر إنصافا لهذه الفئة من المواطنين الذين تشبثوا بانتمائهم ولم يبخلوا قط عن مصالح وطنهم الأم، ويجدر الذكر أن نشير إلى أن دستور 2011 كان سخيا في ما يتعلق بمغاربة المهجر، حيث خصص لهم خمسة فصول: 16 ، 17 ، 18 ، 30 ، والفصل 163 .
حينما تستحضر مغاربة العالم وإنجازاتهم لصالح وطنهم المغرب، غالبا ما يتم التركيز على حجم التحويلات المالية التي يقومون بها لصالح العديد من العائلات المغربية، لاشك أن لهذه التحويلات أثر جد إيجابي على الإقتصاد المغربي، ولكن يجب أن لا يغيب عنا أن مغاربة العالم عرفوا تحولات مهمة، حيث أنهم يتوفرون على كفاءات وطاقات ذهنية لاتقدر بثمن، و يجب الإستثمار فيها لتنمية المغرب.
بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت أوروبا بحاجة إلى سواعد شابة وقوية لبناء ما خرب ، وبدأت الهجرة إلى أوروبا، ووقعت عدة اتفاقيات بين المغرب والعديد من الدول الأوروبية لتزويدهم بعمال مغاربة ، فبدأت أولى الإتفاقيات حيز التنفيذ في أوائل الستينات، وكانت تقتصر على العمال الذكور والشباب منهم خاصة .
في بداية السبعينات بدأ السماح للمغاربة بجلب عائلاتهم، وبدأ تمدرس الأطفال المغاربة، وهكذا بدأت تتشكل النواة الأولى التي ستفرز جزء من الكفاءات المغربية بالمهجر، أما الجزء الآخر من هذه الكفاءات سيتكون من المغاربة الذين اختاروا المكوث والعمل في المهجر بعد إتمام دراستهم خاصة في أوروبا، وبحاملي الشهادات الذين هاجروا من المغرب نحو أوروبا وكندا والولايات المتحدة بحثا عن فرص للعمل والإستقرار .
اليوم تتحدث بعض المصادر الرسمية عن نسبة تفوق 15 في المائة لها تكوين عالي وتملك كفاآت متقدمة، ونحن نتحدث عن مغاربة راكموا تجارب وخبرات مهمة، والمغرب في أمس الحاجة لهذه الطاقات الذهنية وخاصة في التكنولوجيات الحديثة وفي التسيير والحكامة، إذا فمن الواجب الإستثمار في كفاءات مغاربة العالم.
دوليا هذا الأمر ليس بالأمر الجديد، حيث أن كثيرا من الدول استطاعت أن تقطع أشواطا مهمة في هذا الصدد، نذكر مثلا الصين، وتايوان ، الهند ، جنوب إفريقيا، كولومبيا ...
ونحن مقبلون على الجهوية المتقدمة فإنه من الضروري أن نستحضر مجموعة من التقارير التي بثت مؤخرا وتشير إلى أن الموارد البشرية المؤهلة تعد رافعة أساسية للجهوية المتقدمة، بالإضافة إلى تقارير العديد من المؤسسات الدولية المستقلة أو التابعة للأمم المتحدة التي تشير إلى أن سوء الحكامة هي الإعاقة الحقيقية التي تقف في طريق النمو لدى الكثير من دول العالم الثالث.
وقد بات من المعروف جدا أن هناك تفاوت مهم بين الجهات التي سيتم استحداثها من ناحية الكفاءات البشرية المتوفرة، وذلك ما سيحدث تفاوتا في النماء بين الجهات، ومن العدل أن نتمكن من إدراك هذه الإكراهات نعمل على إيجاد حلول والعمل بها.
وإذا أمعنا النظر في خريطة المغرب، نجد أن المناطق المصدرة للهجرة منذ الستينات هي نفسها المكونة للجهات التي ستنقصها الموارد البشرية المؤهلة، بصيغة أخرى نستطيع القول أن هذه الجهات التي ستعاني نقصا في الكفاءات البشرية، لديها مخزون جد مهم منها خارج حدودها، نذكر مناطق الريف مثلا، فإنه من المنطقي أن يكون الداء هو الدواء.
لذا، فإن إشراك كفاءات المهجر في مشروع الجهوية المتقدمة وفي كل مشاريع التنمية لصالح الجهات المستحدثة ولصالح الوطن الأم أمر طبيعي، سيعود بالنفع على كل الأطراف.
بصفة عامة هناك ثلاث خيارات و بدائل للإستثمار في هذه الموارد البشرية المؤهلة :
العودة النهائية لهذه الفئات لبلدهم الأم وإدماجهم التام، بالنسبة للمغرب لا يمكن تطبيقه على نطاق واسع لأسباب بديهية ، مرتبطة بعجز سوق الشغل على استيعاب أعداد كبيرة منهم، ثم عدم وجود شروط معيشية مقارنة بالدول التي يعيش فيها هؤلاء، نستطيع أن نذكر منها الصحة ، التعليم و المنشآت الخاصة بالأطفال..بالرغم من كل هذا لايجب إغلاق هذا الباب كليا، فهناك دائما من يريد العودة تلقائيا وخاصة في ظروف الأزمة الإقتصادية التي تعيشها بعض الدول الأوربية، وهنا يجب الإشارة إلى ضرورة الإسراع في خلق آليات لمرافقة هؤلاء حتى يتمكنوا من الإندماج في المجتمع المغربي.
البديل الثاني يتركز على الحركية، أي عبر تنقل هؤلاء إلى المغرب لفترات محدودة للعمل في مشروع ما دون أن يؤثر ذلك على حياتهم العملية أو العائلية في بلد الإقامة، ويجب الإشارة أن هناك مساعدات من المؤسسة الدولية للهجرة وخاصة في مجال التكوين، بالنسبة للمغرب هذه الوسيلة جد ممكنة وخاصة أنه يلجأ كثيرا إلى خبراء من الغرب و يستقدمهم للإستشارة أو الإستفادة من خبراتهم، ومن الأجدر أن نستقدم خبراء مغاربة العالم مع العلم أن المعاملة ستكون معهم أسهل لأسباب بديهية.
اشراكهم عن بعد، عبر إنشاء شبكات موضوعاتية وجغرافية مكونة من كفاءات مغاربة العالم، وهذا جد ممكن نظرا لقلة تكلفتها ولوفرة إمكانية التواصل .
في الواقع بالنسبة للمغرب والإستثمار في كفاءات المهجر يمكن المزج بين كل هذه البدائل و العمل بها بحجم متفاوت حسب الإمكانيات، وقد تتغير نسبة العمل ببديل أو بآخر حسب الظروف الإقتصادية والإجتماعية التي يعيشها المغرب في تلك الفترة.
لبلوغ النتائج المنشودة يجب :
تحديد الخصاص والحاجيات من هذه الكفاءات في المغرب سواء في القطاع العام أو الخاص .
تحديد الإمكانيات الذهنية التي نتوفر عليها خارج الحدود، أي مغاربة العالم ذوو الكفاءات العالية .
إيجاد آليات الربط بين الحاجيات والقدرات المتاحة.
تحديد مخاطب وحيد ليتكفل بهذه المهام، مع العلم أن هناك مؤسسات عديدة تشارك في تسيير شؤون الجالية المغربية بالخارج، وفي بعض الأحيان قد يؤدي ذلك للتشتت.
إنه من الواضح أننا تأخرنا بعض الشيء حتى يكون لنا منتخبون من مغاربة العالم في الإنتخابات القادمة، لكن هذا لا يعني أنهم حرموا بتاتا من المشاركة السياسية فهناك مناصب سياسية ومناصب حكامة أخرى يمكن أن يشغلوها، دون الضرورة ليكونوا منتخبين.
ثم بعد ذلك سيكون لنا الوقت الكافي للتفكير في إيجاد صيغة عادلة ومنصفة لإشراك واسع لمغاربة العالم في الحقل السياسي المغربي.
والجدير بالذكر أن ملك البلاد صاحب الجلالة محمد السادس، في خطاب عيد العرش الأخير، شدد على أهمية تفعيل مقتضيات الدستور، المتعلقة بإدماج ممثلي مغاربة العالم في المؤسسات الإستشارية وهيآت الحكامة والديموقراطية التشاركية.
*أستاذ جامعي مغربي بإسبانيا