صدر في باريس عن 'المنشورات الجامعية الأوروبية' كتاب جديد بعنوان 'مسجد باريس الكبير: مقاربة تاريخية وتراثية' لمؤلفه الدكتور صالح علواني، يقع في 160 صفحة ويحتوي على ثلاثة فصول وخاتمة.
تم افتتاح مسجد باريس الكبير في العاصمة الفرنسية باريس عام 1926، بعد أربع سنوات من الأشغال التي بدأت عام 1922، وهو يعتبر من المعالم الإسلامية الأولى التي دشنها الفرنسيون على أراضيهم، مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى خاصة موقعة فيردان الفرنسية سنة 1916، هذه الحرب التي مات فيها حوالي ثمانية وعشرون ألف مسلم دفاعا عن فرنسا.
جاءت هذه البناية كتحية عرفان لهم، وهي ليس مجرد مسجد فحسب، بل هي في الأصل معهد إسلامي يضم عدة مصالح، من ضمنها حمام ومقهى وقاعة محاضرات. إذ يعبر عن هوية الكثير من المسلمين الذين يعيشون في فرنسا، ومن المفارقات أن هذه الدولة العلمانية بنت هذا المعلم الإسلامي بقرار من حكومتها بعد أن وجدت لذلك مخرجا ملائما.
كان ـ ولا يزال- هذا المسجد محورا للكثير من الدراسات والكتب والمقالات، وها هو يضاف إليها مؤلف الدكتور صالح علواني الباحث الأكاديمي والمؤرخ التونسي الذي قام بدراسة مميزة وجديرة بالانتباه لأنه تطرق فيها إلى مساءلة التراث المشترك المجسد في مباني مهمة شيدت في فترة معينة من تاريخ الإنسانية وتمثل هوية أقلية من الناس، غير أنها تجسد رمزا مهما يشهد على توظيف الآخر في وقت ما، والآخر هنا هو المسلم، أو سكان شمال إفريقيا بالدرجة الأولى، لإرسالهم إلى حرب كونهم كانوا يعيشون تحت نير الاستعمار الفرنسي الذي جعل منهم ' طعمه للمدافع' لا سيما وأنهم كانوا دائما في الخطوط الأولى.
يحاول المؤلف أن يجيب عن سؤال جوهري يخص العالم اليوم وهو هل نحن مستعدون 'للعيش معا' ونفكر في 'مستقبل مشترك' ونحافظ على اختلافاتنا الثقافية؟، ثم أضاف سؤال آخر ولكن كيف؟ وللإجابة يرى المؤلف بأن المسجد يمثل 'نواة أساسية لمشهد ثقافي عمراني حي' لأنه موجه لأن 'يكون واجهة للإسلام لفرنسا وفيها'، وهذا الإنجاز الجميل كما يؤكد على ذلك المؤلف يساهم 'دائما في كل جهد جماعي لتوفير الإمكانيات المرضية للعيش المشترك، وذلك بتثمين ما يزخر به من إبداعات تراثية وثقافية بتفضيل وتنمية الوسائل التي يمتلكها.'
يشير المؤلف في مقدمة عمله بأنه اعتمد على نصوص ومصادر نادرة كتبت حول المسجد ومنها الكثير مما هو متوفر في مكتبة معهد العالم العربي، كما اعتمد على مجموعة لقاءات أجراها مع من 'ردوا على أسئلته' إذ يعتبر بأن مبنى مثل مسجد باريس مهما كانت الظروف التي بنيت فيه، فهي تسمح لنا بمعرفة مدى الحفاظ على الاختلاف الثقافي الذي تمثله، كما يعتبر شاهدا حقيقيا على 'عبقرية الإنسان على الأرض'.
درس المؤلف ما سماها بالمعطيات أو الإمكانيات التي تتراوح بين المادي واللامادي، حيث تطرق إلى تاريخ المعهد الإسلامي ومسجد باريس كأثر جماعي، رغم أنها فكرة ترجع إلى زمن بعيد، لكنه أراد معرفة ما يسمى بجمعية 'الحبوس' التي تسيره، والتي كانت من ضمن القوانين التي سيرته أثناء تشييده وبنائه من قبل الحكومة الفرنسية بواسطة ممثلها المارشال ليوتي وهو أول حاكم فرنسي للمغرب ، وهو الذي كون ما سماه 'بالمكتب العربي'، درس المؤلف الخلفيات التاريخية والسياسية والاجتماعية التي كانت وراء بناء هذا الصرح. ثم تطرق إلى تحليل الجانب الهندسي الذي يعتبره ورقة استثنائية أو 'مؤسسة أسلامية شيدت بفضل سلاح المودة في قلب فرنسا الليبرالية'، كما تطرق المؤلف إلى الفاعلين الذين كانوا وراء الفكرة وعن التحديات التي واجهتهم، إذ أكد على أن هذا المعمار الديني يحمل 'ثقلا تاريخيا وحضاريا ودينيا وثقافيا' كما يعتبره مكونا مهما له، لأن وجوده يترك الآخر يتساءل حينما يشاهده أو يزوره ليقرأ أو يحاول أن يفهم بعض الأدلة 'والرموز لهذا التراث' كما يعتبره أنه كان ولا زال يمثل 'مؤسسة في زوبعة' عليها اليوم أكثر مما فات أن تسير نفسها وتتجاوز التحديات المطروحة عليها والمتمثلة في مساءلة النظم القانونية التي تسيرها والتي 'لها علاقة عاطفية مع هذا الفضاء' كما يطلب فهم أو تحديد دور هذا المسجد فيما يخص الإسلام في فرنسا، أو الإسلام الفرنسي، أي كيف يواجه هذه المعضلة، وهل يستطيع أن يقوم بالدورين، أم قيامه بهما هو تحصيل حاصل؟ ولكن هل يجيب هذا المسجد عن أسئلة الجميع ويدافع عنهم، خاصة في ظل صعود الحركات المتطرفة والإسلاموفوبيا في أوروبا اليوم؟ أي أن هناك أسئلة عديدة تطرح على المسئولين على هذا المسجد وعلى دورهم تجاه ما يحدث في الواقع اليومي.
لا شك أن التسيير الجيد وتحديد الرؤيا أو الرؤى الإستراتيجية والأهداف المنتظرة هي التي تعطيه إمكانية لعب دور متفتح ومهم ينتظره المسلمون وغيرهم. وعليه يرى المؤلف بأن هذا الصرح الذي أتى 'معبرا على جرح تاريخي معين غدا اليوم فضاء يمكن أن يلعب دورا استثنائيا في تحسين صورة المسلم' وتثمين مكانته، وعلى المسئولين أن يرتقوا به إلى ما هو منتظر منهم، خاصة في ظل التطورات التقنية الحديثة، وفي ظل العولمة التي دخلت بيوت الناس غير مفرقة بين الأجناس والأديان والأشكال والفئات والمستويات الثقافية والاجتماعية، وهي في مضمونها 'النيو ليبرالي 'الجديد والذي أفرزت السيادة الاقتصادية والهيمنة السياسية والعسكرية والثقافية للولايات المتحدة وتوظيف الديمقراطية وحقوق الإنسان باسم الليبرالية.
يؤكد المؤلف على أن هذا المسجد ثري بالأحداث، لذا فهو يبقى دائما محل الكثير من التساؤلات الفضولية المبهمة، وهو شاهد على العلاقات الفرنسية الإسلامية في ظروف صعبة وفي تطورات مختلفة، إذ كان هدفه نشر 'الثقافة الإسلامية التي تمجد الحداثة الغربية'، بني من طرف مهندسين فرنسيين مع احترام التقاليد العربية الإسلامية، وأنه جاء 'لخدمة السياسة الإسلامية للإمبراطورية الفرنسية'، كما أنه وجد ترحابا كبيرا من قبل الإعلام آنذاك، وعليه أن يعمل على 'سياسة السلم المشترك والأخوي، لذا يجب أن يطور ثقافة إسلامية تطمئن المسلمين أنفسهم وغير المسلمين، كما يجب عليه أن يتسلح بتسيير محكم '، حتى يستطيع أن يلعب دورا رياديا حقيقيا على المدى البعيد في 'صالح الجميع.'
لذا و بالإضافة إلى البعد التاريخي وجمالية المعمار التي تم التركيز عليها ضمن هذا الكتاب القيم وهما عنصران مهمان لا بدّ من إبرازهما كأحد العناصر الأساسية في كل عملية تثمين و'أرثثة ' (patrimonialisation) تطرق الكاتب ولأول مرة إلى الإجراءات العملية والضرورية في كل مسار 'أرثثة' وتثمين. كما اقترح حلولا عملية لذلك مشيرا إلى بعض المحاولات الناجحة والتي اعتمدت المدخل الثقافي كمدخل ممكن لهذا التثمين حتى يظل التراث حيا يلعب دوره داخل الفرد والمجتمع غير منفصل عن الحياة وغير محنّط. هذه المقترحات العملية وضعها الكاتب على 'ذمة المسيرين والساهرين على حظوظ هذا المعلم الثقافي والديني' حتى يستفيد ويفيد ويلعب دوره الأصلي والذي بعث من أجله، أي التقريب بين الثقافات والحضارات وهو دور ما أحوج عالم اليوم إليه في ظل ما نشهده من تجاذبات حول الإسلام والمسلمين لدى بعض الأوساط التي ترفض الآخر أو تقلل من أهمية تلاقح وتقارب الحضارات والثراء الذي ينتج عن اختلافها والتحاور فيما بينها.
28-05-2012
المصدر/ جريدة القدس العربي