مغربي رائع جميل واستثنائي ذلك الذي غادرنا في حادثة سير مفجعة إلى دار البقاء عشية الأحد الماضي الحزين. محمد الصايم، الذي فضل الاشتغال في الظل، يعرفه كل من قارب علاقات الهجرة لمغاربة الأرض مع بلدان الاستقبال. تاريخ طويل عريض من النضال في هدوء وصمت لفائدة أبناء البلد، التائهين والثابتين، بين هنا وهناك، ومعارك طويلة، فيها من قادته للمحاكم في هولندا ضد الدولة الهولندية، انتصار للمغربي في معاناته متعددة الأبعاد.
يموت في حادثة سير، وتقشعر الأبدان لمنظر ابنته مونيا وهي تمنع الجميع من الاقتراب من جثته، وتقول مجاهدة دموع العين ‘‘ ما تقربوش لبابا راه باقي حي ‘‘ . مونيا لم تكن الوحيدة التي تعذر عليها استيعاب ما يقع، فقد عود محمد الصايم، كل من يعرفه، داخل المغرب وخارجه أنه يتنقل باستمرار، في كل الاتجاهات، ثم يعود سالما مظفرا في نهاية اليوم، بانتصار للوطن والمواطنين المهاجرين.
غير أن هذا القدر الحزين كان واقعيا هذه المرة. انتهت حياة المغربي الذي كرس حياته للمهاجرين من أبناء جلدته، منذ اختياره العودة طوعا للمغرب قبل 15 سنة وإلى مسقط رأسه بركان تحديدا، على الرغم من نجاح تجربته في الهجرة وعلى الرغم من حمله للجنسية الهولندية، بمعية زوجته وأبنائه الثلاثة: مونيا ومنال وطه.
عودة إلى أرض الوطن وتأسيس جمعية خاصة تعنى بالمهاجرين، نوع آخر من الهجرة إلى الذات والحقوق هذه المرة. ‘‘مؤسسة هولندا لمساعدة العائدين ‘‘ نجحت في أن تحتل مكانها تحت الشمس، بل وأقنعت المسؤولين الهولنديين لتمويلها مباشرة، إيمانا منهم بأهميتها في التأثير، على المهاجرين في كلا البلدين، بمقاربة الهجرة من منظور جديد يحطم الكليشيهات الجاهزة . للمؤسسة فرعان ، أحدهما استقر في بركان والآخر في هولندا، وكان محمد الصايم مشرفا على الفرعين معا، بمعية مهاجرين سابقين.
وقوفه في مواجهة الحكومة الهولندية أمام القضاء وربح ملفات كثيرة لصالح مغاربة في عشرات القضايا التي عاني فيها أبناء البلد من ظلم أو حيف، جلب عليه وعلى المؤسسة وبالا كبيرا، لدرجة أن المسؤولين في هولندا ومن ورائهم الدولة الهولندية قرروا قطع المساعدات عليه، وشاع خبر توقيف الدعم عن مؤسسة هولندا بشكل كاد أن يقنع الراحل محمد الصايم بالعودة نهائيا إلى هولندا، بلده الثاني، لكنه أصر على الاستمرار، ودفعه هذا الإصرار على إخراج كل ما جعبته من علاقات كبيرة ومتميزة مع صناع القرار في هولندا. وبفضل هذا المجهود الكبير، الذي بذله الراحل في صمت ودون مساعدة من أحد في المغرب، استمرت مؤسسته في الحياة. فقد كان له الفضل في إثارة العديد من الملفات المرتبطة بقضايا المغاربة العائدين من هولندا أبرزها اتفاقية الضمان الاجتماعي.
كان محمد الصايم نشيطا بشكل غريب كثير وكانت له قدرة خرافية على التحرك الدائم و السفر. بعد استقراره في بركان، قرر خوض تجربة الحياة السياسية في شكلها المصغر، فترشح في الانتخابات الجماعية الأخيرة لا منتميا في جماعة أونوت مسقط رأسه، لكنه لم ينجح. ومع ذلك فقد استمر في العمل بإثارة قضايا الجماعة وتسليط الضوء على مشاكلها. كان له الفضل في الترويج للسياحة الجبلية في تافوغالت حتى أن السفير الهولندي تحول إلى متيم برحلات المشي في جبال تافوغالت. مشهود له بعلاقاته الطيبة مع الجميع خدوم بشكل رائع ومحب للحياة، كما أنه لم يكن من النوع الباحث عن المال أو النجومية فقد كان يشتغل في الظل ولا يطلب نجومية أو شهرة أو سعي لمنصب.
لفظ الفاعل الحقوقي محمد الصايم، رئيس مؤسسة هولندا لمساعدة العائدين، صباح يوم الأحد ببركان، أنفاسه الأخيرة، بعد حادثة سير راح ضحيتها ليلة نفس اليوم بإحدى ضواحي المدينة. اشتهر الفقيد بدفاعه عن مصالح الجالية المغربية المقيمة بهولندا، أو العائدين منهم إلى أرض الوطن، كما عرف بترافعه حول حقوق المغاربة المضمنة في اتفاقية الضمان الاجتماعي الموقع بين المغرب وهولندا سنة 1972 ، ووري جثمانه ، بعد صلاة ظهر أمس الاثنين، في دوار أونوت، في إقليم بركان. وكان في مقدمة المشيعين سفير هولندا في المغرب، بالنظر إلى علاقته الوثيقة بالراحل، وكذا عامل إقليم بركان، إضافة إلى العشرات من أقاربه ومعارفه.
وقد ساهم الراحل بشكل كبير في الدفاع عن مصالح مغاربة هولندا العائدين إلى أرض الوطن وتبني قضاياهم خصوصا فيما يتعلق بالتفاعل مع قرارات هولندا خفض التعويضات العائلية للأرامل والأيتام المقيمين خارج هولندا وكذا فيما يتعلق بالنقاش حول اتفاقية الضمان الاجتماعي بين المغرب وهولنداو كان من أهم المدافعين عن منطقة تافوغالت. وقد ظل محمد الصائم، متنقلا من مكتبه ببركان، لحضور عشرات الجلسات بمحاكم أمستردام وأوتريخت في ملفات تهم تعويضات الأرامل وتعويضات الأطفال والعائدين، واستطاع الرجل انتزاع والحفاظ على العديد من المكتسبات لفائدة أسر المهاجرين المغاربة سواء العائدين منهم أو المستقرين بالديار الهولندية.
قبل سنتين خاض محمد الصايم نضالا مستميتا من أجل المهاجرين المغاربة في هولندا و المنحدرين من أصول صحراوية في صراعهم ضد الدولة الهولندة الممسوسة بموجة الاحتجاجات البرلمانية الأوروبية حول وضع الصحراء المغربية الاقتصادي. فبعد الانفراج الذي عرفه ملف الاتفاقية المغربية الهولندية حول الضمان الاجتماعي خلال الأشهر الأولى لسنة 2014، عاد الملف مرة أخرى إلى مرحلة التشنج والتعقيد خلال النصف الأول من سنة 2015، بسبب استثناء هولندا سكان الصحراء المغربية من التعديلات المتفق عليها بين الطرفين. وأمام هذا الوضع الجديد، عبرت “مؤسسة هولندا لمساعدة العائدين” و”الجمعية المغربية لمساعدة المهاجرين” في بركان عن “أسفهما” لقرار الحكومة الهولندية الذي اعتبرتاه “لا يتماشى والعلاقات التاريخية التي تربط البلدين‘‘ . وقالت “مؤسسة هولندا لمساعدة العائدين” إن هذا القرار “كان له الوقع السيء لدى المغاربة المعنيين بالأمر، والذين ضحوا بقدراتهم وشبابهم خدمة لصالح البلدين”، معتبرة أنه في حالة المصادقة على هذا القرار، أي إلغاء الاتفاقية المغربية الهولندية حول الضمان الاجتماعي، فستكون الانعكاسات متباينة حسب كل حالة.
تقول أغنية الغربة الشهيرة لمحمد الغاوي ‘‘ غريب أنا واش داني نعشق ونضيف لحالي حال ‘‘. محمد الصايم عشق المغرب وأضاف لحاله حال باقي أبناء جلدته في عشق خاص، ندر حياته له.
فلترقد بسلام سي محمد.