حول شهر تموز الحالي بيروت إلى مدينة أطلنطس جديدة مع اكتشاف هياكل عظمية لبشر وحيوانات مزرعة في منطقة الباشورة خلال أعمال تنقيب. وعلى بعد كيلومترات قليلة حوّلت الفنانة المغربية أيطو برادة صالة "زملر صفير" في منطقة الكرنتينا إلى حقل تنقيب عن الأحافير المغربية في معرض تحت عنوان "دليل زائف".
يستلزم الوصول إلى المعرض المرور في منطقة صناعية تضج بأصوات المطارق التي يستخدمها العمال في الورش القريبة. تشكل تلك الأصوات مقدمة لدخول عالم التنقيب عن الأحافير في جبال المغرب وصحرائه.
في صالة العرض الصغيرة ضمن المعرض، يوثّق فيلم تسجيلي قصير مدته 20 دقيقة وقائع استخراج وتزوير الأحافير في المغرب. ويتميز المخرج بلقطة جميلة يعرض فيها أحد العمال العدة التي يستخدمها في التنقيب، من خلال رميها على رمل الصحراء. فتشكل قوة رمي العدة، أحافير مؤقتة تختصر الكثير من مراحل تكوين الأحافير المغربية القائمة على المخلوقات البحرية والزواحف. وهي الكائنات التي يقتلها المزوّرون، ويصبون الطين وطلاء الأحذية فوقها لإعطائها شكل الأحفورة القديمة. وقد استخدم عمال مغاربة هذه الحيلة للإيقاع بعالم انكليزي نكد، فدسّوا له مجموعة أحافير مزروة في إحدى المناطق وتركوه ليكتشفها ويرسلها باسمه إلى المتاحف العالمية التي اكتشفت تزويرها، فقضى طبعه السيئ والحيلة المغربية على مُستقبله العلمي.
يجمع المعرض الثاني لبرداة في بيروت مجموعة أعمال مرتبطة بتجارة الأحافير المغربية، في إطار عرض الفنانة مُتعددة المواهب لهوية بلادها الوطنية من خلال السياق التاريخي الذي خطته الأحافير بين الصحراء المغربية وجبال الأطلس. وإن كانت برادة تصف أعمالها بـ"الواقعية"، فإن حس النقد اللاذع البارز في معرضها يدخل في سياق نحت واقع جديد للهوية المغربية بعيداً من "تزوير الأحافير وتحويلها إلى سلعة استهلاكية رخيصة". وهو ما عبّرت عنه الفنانة من خلال تشكيل الأحجار المشهورة من مدينة أفرود التابعة لإقليم الراشيدية على شكل زجاجات مشروبات غازية. وفي لقطة اعتراضية أخرى على تسليع التراث الطبيعي المغربي، تعرض الفنانة مجسّماً غير مُتقن لهاتف محمول صنعته ابنتها الصغيرة من الحجارة الزرقاء المشهورة في المغرب أيضاً.
وفي جزء آخر من المعرض، انطلقت برادة من الجدول العلمي المُعتمد لتصنيف الأحافير، وهو مربع الشكل وملون، لتعرض مجموعة سجاجيد حاكتها سيدات مغربيات بالاعتماد على الأشكال الهندسية والألوان المُعتمدة نفسها في الجدول العلمي. وفي القسم نفسه تستخدم الفنانة اللوحات الإعلانية البسيطة ذاتها التي يرفعها تجار الأحافير أمام محالهم، لانتقاد "التفنن في الكذب والغش". وتعرض مقابل هذه اللوحات الأصلية لوحات "كونتامبوراري" لعبارات خيالية كـ"ملك جمال بريطانيا مغربية!". تكره أيطو الكذب، وقد حرصت على التعبير عن ذلك في أجزاء معرضها.
وكمتحف في قلب المعرض الخاص بها، قدمت المصورة والسينمائية والنحاتة مجسماً لمتحف العلوم الطبيعية في المغرب الذي لم يُبصر النور. وتشير المنسقة الثقافية في "زملر صفير"، فادية عنتر، إلى أن "وضع الخرائط والتصميمات للمتحف المغربي انتهت عام 1950، لكن التنفيذ لم يتم، وهو ما يترك غصة دائمة في قلوب الفنانين والمؤرخين والعلماء المغربيين". ومن المتحف الذي لم يتم، تعرض أيطو مجموعة صور من الحياة اليومية المرتبطة بتجار الأحافير من الألعاب البسيطة والفقيرة التي صنعها أهالي الصحراء لأبنائهم خلال ثلاثينيات القرن الماضي، "وهي الألعاب التي وجدت طريقها إلى متحف الإنسان في العاصمة الفرنسية باريس".
صراع الاستعمار والهوية
تعيش أيطو برادة في مدينة طنجة القريبة إلى السواحل الأوروبية، وفيها تحاول السيدة مزج الحضارتين الأوروبية والشمال أفريقية معاً. لذلك تحضر وقائع الاستعمار الفرنسي للمغرب في المعرض، ولكن بشروط أيطو وعلى طريقتها.
بجانب صور ألعاب الأطفال، صورت برادة مكعبات اللعب الخاصة بالأطفال على شكل عبارات حازمة رددها الحاكم الفرنسي للمغرب "ليونيه"، فلعبت بمحتوى الكلام رغم نقله بحرفيته. حضرت الطفولة أيضاً في مجموعة صور لرسومات خطها مغربيون من أعمال مختلفة على أوراق المدارس الفرنسية في بلدهم، ووجدت طريقها أيضاً إلى المعارض الباريسية. وتقول عنتر إن "هذه الرسومات تُظهر الفوارق الفكرية والثقافية بين أبناء المغرب الذين درسوا في المدارس الفرنسية وبين المغربيين التقليديين الذين احتفظوا بهويتهم الشمال أفريقية". وكما حضر الفقراء وألعابهم، حضر أغنياء المغرب في مجموعة من المُعلّقات التي تمت حياكتها من القماش المُستخدم في صالونات الطبقة الغنية في المغرب. وقدمت أيطو مع كل مُعلقة بيتاً شعرياَ للشاعر عبد الرحمن المجذوب.
دكان بيع الأحافير في المعرض
تنتهي الجولة في المعرض مع الزاوية التي تعرض الأحافير التي تحمل شكل القلب، وهي الأحافير المزورة التي يشتريها السياح وهم يعرفون أنها غير أصلية.
وتعرض أيطو قربها مجموعة أحافير أصلية نقّب عنها أسلافها في الصحراء، وبنوا بالحجارة التي خلّفتها أعمال التنقيب أهرامات صغير قرب محالهم التجارية للدلالة عليها. وأكثر ما يُعبّر عن الحضارة المغربية في المعرض هو الخلل في آلة الطباعة التي طبعت عليها الفنانة مجموعة صور لمغلفات كتب منتشرة في المغرب، فظهرت الصور باللونين الأزرق والأخضر فقط. وهي ألوان الوشم البربري التقليدي الذي وجدت فيها أيطو أبسط مُعبّر عن حضارة بلونين امتدت بين الموقعين الطبيعيين: الصحراء والجبل.