الشاهد العظيم
نادية بوراس
حضرات السيدات والسادة،
أود أن أبدأ عرضي هذا بتجربة شخصية. فيوم الاثنين الماضي ذهبت إلى القنصلية المغربية بالمدينة التي أقطن بها، أمستردام، وذلك من أجل تجديد بطاقة التعريف الوطنية. في القنصلية، طلبوا مني تقديم مجموعة من الوثائق والمعلومات التي لم أكن أتوفر عليها، وبالتالي لم أستطع تجديد بطاقتي الوطنية وإنما حصلت على جواز سفر مغربي فورا. وكمغربية أنتمي إلى الجيل الثاني الذي ولد في هولندا، لم أتوفر يوما على جواز السفر المغربي.
وعندما منحت جواز السفر المغربي ذي اللون الأخضر، شعرت بالاعتزاز بهويتي المغربية ولكن في نفس الوقت شعرت وكأنني خذلت هولندا، البلد الذي هاجر إليه والدي والبلد الذي ولدت فيه. هذا المزيج من المشاعر والأحاسيس هو نتيجة النقاش السياسي والعمومي الدائر حاليا في البلدان الأوروبية، وبشكل أكبر في هولندا. والفرضية المهيمنة هي هذه النقاشات هي أن انخراط المهاجرين في بلدانهم الأصلية وتشبثهم بها عائق يعترض طريق الاندماج في بلدان الإقامة. فضلا عن ذلك، ُينظر إلى الجنسية المزدوجة وكأنها تتضارب مع المصالح الوطنية.
ويرمز جوازا السفر، اللذان يعتبران وثيقة سفر، إلى هويتي المغربية والهولندية ولكنهما لا يحددان من أكون وما هي قناعاتي. ومن خلال هذه التجربة، أود أن أشير إلى نقطتين هامتين. أولا، إن هذا الحدث الذي ينعقد اليوم بمدينة مراكش أمر قابل للجدل. فكوننا هنا نناقش قضايا متعلقة بحقوق المرأة يخلق نقاشا سياسيا وعموميا ساخنا يشبه التزامنا بالنهوض بمكانة المرأة المغربية هنا وبالخارج بعدم وفاء وبتدخل غيرمرغوب فيه من جانب الدولة المغربية في شؤون المهاجرين. ومن جهة أخرى، تنظر الأحزاب السياسية اليمينية في هولندا إلى المغاربة المنخرطين في تنمية المغرب بعين الريبة، كما تعتقد هذه الأحزاب أن الأشخاص الذين يملكون جوازي سفر يجب أن يقطعوا علاقاتهم بالبلد الذي ولدوا فيه هم أو أباؤهم، لأن ولاءهم موضع شك.
أما النقطة الثانية التي أود أن أتطرق لها هنا فهي أن الانخراط في البلد الأصلي والتشبث به لا يعني الجيل الأول فقط. فقد أصبحنا نرى بشكل متزايد أن الجيل الثاني والثالث ملتزم كذلك بالمساهمة في تنمية البلد الأصلي وساكنته.
ويبرهن هذا اللقاء الذي يستغرق يومين هنا بمراكش أن رجال السياسة في البلدان الأوروبية، وخصوصا هولندا على خطأ. فأنا أقترح أن نتجاهل هذه الادعاءات اللاعقلانية التي تنم عن طريقة أبوية وعن الكراهية وأن نواصل عملنا في النهوض بحقوق المرأة المغربية هنا وبالخارج. إنني مقتنعة اقتناعا راسخا بأن المغاربة في كل أرجاء العالم أصبحوا مواطنين يمرون عبر مرحلة انتقالية ويتشبثون ببلد الإقامة والبلد الأصلي في نفس الآن.
ويميل المؤرخون مثلي إلى النظر إلى الماضي قبل استشراف المستقبل. فإذا ما قمنا بمقارنة بين تاريخ الحركات النسائية والوطنية بالمغرب وتاريخ الحركات النسائية والوطنية في دول أخرى من دول العالم الثالث التي ناضلت من أجل التحرر من الحكم الاستعماري الغربي، فإننا سنجد العديد من التجارب الموازية والمماثلة. ففي كل هذه البلدان، تغيرت المجتمعات التقليدية بفعل التطورات الاقتصادية الرأسمالية وظهور الحركات الوطنية، ومن بين ما أفرزته هذه التطورات الاقتصادية والاجتماعية هو ظهور الحركات النسائية. كما عرفت مجموعة من البلدان ظهور حركات إصلاحية دعت إلى تعليم نساء الطبقات الميسورة وإخراجهن من العزلة التي كن يعشن فيها. وكانت هذه الحركات في غالبيتها محافظة اجتماعيا، حيث استهدفت تقوية البنيات العائلية التقليدية وبالتالي مواصلة إخضاع المرأة في العائلة. وفي نفس الوقت، ساهمت الهجرة من العالم القروي إلى المدينة والضغوط الاقتصادية في "تحرير" نساء الطبقات الشعبية مما ساهم في خلق طبقة عمالية جديدة وإخراج النساء من منازلهن وانضمامهن إلى اليد العاملة الصناعية.
ورغم أن النساء كن منخرطات في النقاش العمومي الذي صاحب هذه الحركات الإصلاحية الأولى بالمغرب، حيث بدأت مليكة الفاسي تكتب مقالات عن تعليم الفتيات في منتصف الثلاثينات، فإن فضل انخراط النساء كمجموعة في العمل السياسي يعود إلى الحركة الوطنية التي أخرجت النساء من الفضاء المنزلي التقليدي إلى الفضاء السياسي والعمومي لأول مرة. غير أن هذه الحركات الوطنية نفسها وضعت قيودا على الحركات النسوية. وهكذا، فإن هذه الخطابات المتضاربة حول دور المرأة انبثقت عن بواعث الازدواجية والمتناقضة أحيانا للحركات الوطنية نفسها. فمن جهة، أراد الوطنيون التخلص من المستعمر وتحديث مجتمعاتهم اعتمادا على النموذج الأوروبي الذي تطلب تعليم النساء وتعبئتهن، ومن جهة أخرى أرادوا ترسيخ هوية وطنية متميزة ومختلفة عن هوية المستعمر تستمد جذورها من تاريخ بلدانهم وثقافتها المتميزة، مما أدى بهم إلى التأكيد على الدورالأساسي للمرأة في المنزل وفي وسط العائلة كحارسة للتقاليد.
وبعد الحصول على الاستقلال وتأسيس الدولة-الأمة وحصول النساء على الحق في التصويت، تلاشت الحركات النسوية عموما أو تحولت إلى منظمات للرعاية الاجتماعية تمولها الحكومة وتديرها نساء من الطبقات الميسورة. ولم تكن ثمة أية حركة حاولت أن تعالج وضعية الخضوع التي تعاني منها المرأة داخل الأسرة. كما أن القادة السياسيين من الرجال الذين قاموا عن وعي بتعبئة النساء للمشاركة في الكفاح من أجل الاستقلال أعادوا النساء عن وعي أيضا إلى مكانتهم المألوفة. وخلال العقد الذي أعقب الاستقلال، تراجع وعي النساء وكذا حضورهن في المشهد السياسي إلى مستويات دنيا. ومع ذلك، فإن النساء اللائي كن منخرطات في الحركة الوطنية والمقاومة المسلحة مشهود لهن اليوم بأنهن أمهات الحركة النسوية المغربية الحديثة.
وبعد منتصف الستينات، انتقلت قيادة الحركات النسائية من يد الجيل الأول من النساء الذي شارك في الحصول على الاستقلال إلى يد الجيل الثاني. وإلى حدود ذلك العهد تمكنت العديد من النساء الشابات من الولوج إلى الجامعة، حيث انخرطن في الحركات الطلابية والماركسية السياسية التي تطورت في نهاية المطاف إلى قوة سياسية. وخلال هذه الفترة، ظهرت حركة نسائية ماركسية ربطت قضية المرأة بالنضال الطبقي. وخلال منتصف السبعينات، وضعت الحركات اليسارية قائمة بالمطالب النسائية من أجل جمع المعلومات حول وضعية المرأة بالمغرب واستعمال وسائل الإعلام لإثارة الانتباه إلى القضايا النسائية وربطت تحرير المرأة بالاشتراكية.
ولم تكتس الحركة النسوية المغربية بعدا جديدا إلا في السنة التي ولدت فيها، أي 1981، من خلال تأسيس حركة 8 مارس. ومن بين القادة الكبار وراء تأسيس هذه الحركة نجد لطيفة الجبابدي التي كانت نموذجا يحتذى به ومصدرا للإلهام. فقد أرادت هي ومجموعتها معالجة قضية المرأة وطرحت رؤية نسائية كانت مفقودة حتى ذلك الحين. وكانت هذه خطوة كبيرة إلى الأمام لأنها مثلت المرة الأولى التي يظهر فيها خطاب نسائي مستمر أنتجته النساء. فلأول مرة تعبر النساء عن أفكارهن وكان هذا هو الخطاب الذي وضع دور المرأة في المدونة على الأجندة السياسية. وبعد ذلك تحولت حركة 8 مارس إلى منظمة سياسية سميت ''اتحاد العمل النسائي''، الذي كان أول منظمة سياسية في المغرب ترأسها امرأة وتتخذ مسألة تحرير المرأة كأولوية لها. وحتى سنوات التسعينات كان اتحاد العمل النسائي ملتزما بإصلاح المدونة ووجد على نطاق ضيق آذانا صاغية من القصر الملكي. غير أن إدخال إصلاحات جدية على المدونة لم يحدث إلا بعد مرور عقد على ذلك.
وفي نفس الوقت، هاجرت المئات والآلاف من النساء المغربيات وطنهن، أغلبهن في إطار التجمع العائلي. أما اليوم وعلى بعد أيام قليلة من حلول العام الجديد، فقد حصلت مجموعة من التطورات الإيجابية وتحققت مجموعة من المكاسب في مجال حقوق المرأة. ولكن حتى اليوم، يبقى التحدي الأكبر والقضية العاجلة التي تواجهها النساء داخل المغرب وخارجه هي التغيرات التي طرأت على قانون الأسرة وتطبيق هذه الإصلاحات. فمسار تطبيق هذه الإصلاحات مازال شاقا وطويلا. لذا، فأنا أعتقد أنه في هذا الإطار، يمكن للمنظمات النسوية المغربية داخل المغرب وخارجه أن تضع يدا في يد وأن تعمل جنبا إلى جنب على معالجة هذه القضايا. فلا يكفي تربية الإناث والذكور معا على الإصلاحات التي لحقت بالمدونة وإنما أيضا جمع الخبراء والمحامين والمستشارين القانونيين والقضاة من أجل تدارس حقوق المرأة هنا وبالخارج وتبادل المعلومات والخبرات حولها. فضلا عن ذلك، أود أن أقدم لكم مثالا آخر في هذا الصدد؛ يشكل تعنيف النساء والعنف الزوجي مشكلين خطيرين هنا وهناك. ومن شأن المنظمات النسوية المغربية أن تستفيد من الخبرة الموجودة في أوروبا بخصوص بيوت النساء الآمنة. وفي نفس الوقت، يمكن للمنظمات المتواجدة خارج المغرب أن تتعلم الكثير حول كيفية معالجة القضايا والمشاكل الثقافية والاجتماعية التي تخص المرأة المغربية. فمن السهولة بمكان تصدير المقاربات المعتمدة في المغرب إلى البلدان الأوروبية.
وأعتقد أن هذا التعاون يجب أن يحكمه الأخذ والعطاء ، حيث لا ينبغي للمغرب أن يركز فقط على استيراد الأفكار والخبرات وإنما على تصدير التجارب والخبرات أيضا. ويمكن للمنظمات النسوية المغربية في أوروبا أن تستفيد وتتعلم من إنجازات الحركة النسوية وتاريخها والمجتمع المدني بالمغرب شأنها في ذلك شأن المنظمات المتواجدة بالمغرب التي يمكن أن تستفيد بدورها من نظيرتها الأوروبية. ففي ما يخص تشكيل الهوية، من الأهمية بمكان أن نكون واعين بتاريخ المرأة المغربية. وفي هذا الصدد، يمكننا أن نتعلم الكثير انطلاقا من تاريخ المرأة المغربية، سواء كنا في أوروبا أو كنا في باقي أنحاء العالم. فمن خلال جمع مكونات تاريخ النساء المغربيات وتنظيم مثل هذه اللقاءات، يمكن لمجلس الجالية المغربية بالخارج أن يلعب دورا هاما في التعاون الدولي بخصوص المساواة بين الجنسيين.
إننا نجتمع في هذا المؤتمر بنخبة من الدارسين والسياسيين والصحفيين ورجال القانون والفاعلين في المجتمع المدني والمناضلين وممثلي المنظمات النسوية، وهم كلهم موهوبون ورائعون. وجميعنا نقتسم شيئا واحدا وهو اهتمامنا بقضية النوع الاجتماعي، التي تكتسي أهمية كبرى نظرا للإيديولوجية المغربية المهيمنة والمتغيرة والمتعلقة بالأدوار والفضاءات المنفصلة للرجل والمرأة. كما نقتسم شيئا أكبر من ذلك ألا وهو اعتقادنا بأنه يجب علينا أن نتجاوز الدور التقليدي الذي يضطلع به النوع الاجتماعي. وهذا الاعتقاد يجعل كل فرد منا متفرغا لتحسين المساواة بين الجنسيين، مع احترام الحريات الفردية والاختلاف. وهناك عدة سبل من أجل تحقيق أهدافنا. ولكن إذا عملنا معا على أساس إستراتيجية جماعية، سيكون بمقدورنا تحقيق جميع هذه الأهداف. كما لا يجب أن ننسى الرجال، لأن قضية النوع لا تعني النساء فقط، فهي تتعلق بآليات للإدماج وأخرى للإقصاء. ففي معظم الحالات، يتم إقصاء النساء من المشهد السياسي والمجال الاجتماعي والفضاء العمومي، وذلك ليس في المغرب فقط وإنما في باقي أقطار المعمور كذلك. ومن أجل تغيير الوضع الراهن والقيام بخطوة عملاقة إلى الأمام على درب تمكين المرأة المغربية، علينا أن نسعى للحصول على تعاون الرجل، حيث لا يمكن تحقيق المساواة بين الجنسين إلا إذا تغيرت عقليات الرجل والمرأة معا.
ماذا بعد ذلك؟
إن موضوع هذا اللقاء يكتسي أهمية كبرى ويمثل بداية لتعاون دولي من أجل تحقيق المساواة بين الجنسين. لذا، ينبغي علينا تعزيز التنسيق مع المنظمات النسوية المغربية بغية توسيع نطاق حرية المرأة سواء داخل المغرب أو خارجه. إننا بحاجة إلى تبادل أكبر للمعارف والخبرات. ولا ينبغي أن تحكم عملنا إستراتيجية معينة وإنما مبادؤنا المتعلقة بالمساواة في الحقوق. فمن خلال هذه المبادئ يمكننا أن نضع إستراتيجية جماعية ترتكز على مبادئنا المشتركة. لنتحدث قليلا ولنقم بالكثير، ولنكن عمليين أكثر، لأن عملا كبيرا ينبغي القيام به مازال ينتظرنا سواء هنا أو بالخارج، لنواصل تنظيم مثل هذه اللقاءات ولنواصل اقتسام الأفكار والتصورات وتبادلها. فليكن هذا اللقاء الخطوة الأولى على درب مسار طويل.
حضرات السيدات والسادة،