البؤس واقع نسائي
فوزية الفايد
في مغرب يشهد تحولا مستمرا، لا يمكن لأي أحد أن ينكر الإنجازات المحققة في مجال حقوق المرأة، خاصة في الجوانب القانونية، وذلك منذ دخول كل من مدونة الأسرة الجديدة وقانون الجنسية حيز التنفيذ. لكن العديد من الأسباب تدفعنا إلى القول إنه على الرغم من الإنجازات والمكتسبات المحققة، ما زال أمامنا الكثير لنقوم به من أجل المرأة هنا وهناك.
وقد احتفل العالم للتو، يوم 10 دجنبر 2008، بالذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تحت شعار "الكرامة والعدالة للجميع"، الذي أعلن عنه، بان كي مون، الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة.وانطلاقا من المسؤولية الملقاة على عاتقنا جميعا، وفي سياق النقاش الدولي هذا، نرى أنه من المشروع إعادة النظر في الوضعية الحالية للمرأة المغربية. فالتحديات التي تواجه تقدم المرأة مرتبطة بقطاعات عدة، وهي معقدة، على اختلافها. وعليه، فإن الظاهرة التي تبدو لي أكثر إلحاحا، والتي تتزايد مع المماطلات المتكررة التي تعصف بقطاع الاقتصاد، هي ظاهرة الهشاشة.
ومن أجل تحديد الأسباب وتحليلها، ومن ثم البحث عن الحلول الممكنة، من المفيد طرح الأسئلة التالية: ما هي الهشاشة؟ هل هي مرتبطة بالنوع الاجتماعي الأنثوي؟ ماذا تعني امرأة في وضعية هشاشة؟ بعبارة أخرى، هل النوع الاجتماعي الأنثوي عنصر مساهم في الهشاشة؟
واستنادا إلى لسان العرب، يقال "هَشَّ يَهِشُّ هَشاشةً، فهو هَشٌّ وهَشيشٌ" و "الهَشُّ والهَشيشُ من كل شيء: ما فيه رخاوة ولين". أما في المعجم الفرنسي le Petit Robert، فكلمة vulnérabilité (هشاشة) تحدد الشيء أو الشخص الذي ليست لديه مناعة، واهن الطبع أو الذي يمكنه أن يصاب بسهولة، أي الذي لا يحسن الدفاع عن نفسه. وكلمة Vulnéraire تقال عن المنتَج الذي يشفي الجروح والكدمات (نوع من الأعشاب الطبية).
وتعتبر الهشاشة في البنية الجسمانية عامل إقصاء، حيث تعبر هذه الفكرة عن قناعة اجتماعية-ثقافية. لذلك يتم التقليل من شأن المرأة عندما تريد القيام بمهمة ما وتوضع كفاءتها موضع شك، لكن الهشاشة الجسمانية لا تنقص من القدرات الذهنية شيئا. وفي بلد حيث تعيش 17% من الساكنة تحت عتبة الفقر، مع فارق ملحوظ بين الساكنة الحضرية والقروية، يبدو أن المرأة هي أكثر من يعاني من هذه الآفة، ولا تستطيع اتخاذ الخطوة والتغلب على واقعها المرير. ونتيجة لذلك، فهي تعاني من الأمية، العائق الرئيس أمام وعيها، وبالتالي فهي تقع ضحية الظلم الممارس في حقها دون أن تدرك كيفية المطالبة بحقوقها. ومن جهة أخرى، فعندما تكون المرأة أمية، تعوزها الكفاءة بشكل تلقائي، وبذلك فهي تعيق تقدم البلاد. وعندما تجبر على العمل، خاصة في العالم القروي وفي مدن الصفيح، حيث معدل الفقر في أعلى مستوياته حسب ظروف العيش الخاصة، فهي تكون عرضة للمعاملة السيئة في سعيها إلى تلبية حاجياتها المعيشية اليومية. وتحقيق الذات بالنسبة لها ليس سوى هلوسة، ليس سوى قمة وهمية بعيدة المنال.
والهشاشة لا تعني بالضرورة الفقر، الذي يتجلى اليوم بمقاييس مختلفة، وإنما تحيل على صعوبة إيجاد عمل يوفر مصدر رزق قار. وأغلب النساء الأميات يشكلن الشريحة السكانية الأكثر تضررا من البطالة. لذلك، فعندما يحصلن على عمل ما، يرضين بأجور زهيدة. وفي الغالب، يكون ذلك دون تغطية اجتماعية ودون تعويضات عائلية، ودون ضمانات للمستقبل، ويعمل بطرق مخالفة للقانون وفي إطار عقود مؤقتة.
غير أن النساء يحملن هاجس الإتقان ويقدمن أفضل ما لديهن ويقمن بمهام تفوق طاقاتهن، بهدف الحفاظ على عملهن ومخافة أن يلقى بهن في الشارع وأن يحرمن أساسيات العيش الكريم؛ إنه الخوف من المجهول الذي تخفيه الحياة (مرض أو غيره) والصعوبة التي يعشنها في التعامل مع الضغط ومع تحديات الحياة ومع التحرش. ويكمن الهدف من ذلك في التعفف عن السؤال وعدم اللجوء إلى الغير من أجل سد الحاجيات، ودون التعرض للاستغلال، بمختلف أشكاله، ذلك أن الاستقرار في العمل يعادل التوازن في الحياة، أي يعادل الكرامة.
وبالاستناد إلى مؤشرات اقتصادية واجتماعية، يمكن التمييز بين أشكال مختلفة من التفاوت الذي تعاني منه المرأة في مجتمعنا.
التفاوت المشار إليه:
- بخصوص الأنشطة الممارسة
- بخصوص نوع الأعمال الممتهنة
- أمام هشاشة العمل
- أمام البطالة
- في الأجور
- التراث وولوج المصادر الناذرة
- الاستهلاك
- التمدرس
- الصحة
- الحركية الاجتماعية
- العدالة الاجتماعية
- التمثيلية السياسية
- الرفاه الاجتماعي للمهن
الحلول المقترحة
"الارتكاز على مبدأ المساواة في الحقوق والمساواة في الأوضاع والمساواة في الفرص والحكم بالاستحقاق".
أمام سوق شغل مخيف أكثر فأكثر، مع تطلبه للكفاءات، فإن من تعوزهن تلك الكفاءات يحصلن على دخل جزئي وعدم استقرار مادي ويقبلن أعمالا تافهة بدخل زهيد. فالبؤس الأسود يتربص بهن، وهن يفترشن الرصيف من أجل التسول أو بيع المناديل الورقية وغيرها، بل منهن من يبعن أجسادهن. وهذه الصورة المخزية التي باتت عرضا مألوفا، ينجم عنها تهميش اجتماعي.
فالمرأة كائن ضعيف بطبعها، وحتى عندما تختار العمل، تقع عليها أعباء الأشغال المنزلية. فهي تطبخ وتعتني بالأطفال بعد الحمل والولادة، حيث يحُول العبء الزائد بينها وبين مستقبلها المهني. لكن بين الرجل وزوجته يكون العبء أخف ويمكن أن يكون قابلا للتدبير في جميع الحالات، غير أنه في حالة حدوث فراق، فإن المرأة تتحمل لوحدها، وطيلة الوقت، جميع المسؤوليات، وتهمل حياتها لتضحي من أجل أبنائها، في حين أن الزوج يمكنه أن يعيد بناء حياته من جديد.
واستنادا إلى ثقافتنا الإسلامية، يجب على الرجل والمرأة، والذين خلقا "من نفس واحدة"، كما جاء في سورة النساء، أن يحافظا على روابط مبنية على الاحترام والتقدير المتبادلين. فقد حددت الشريعة دور كل منهما وحقوقه وواجباته. واستنادا إلى نفس المرجعية، فالمرأة كائن مستقل، مثلها مثل الرجل، حيث إن كل واحد منهما مكلف بمهمة يجب عليه القيام بها على أكمل وجه من أجل إثبات وجوده. ولكي يضمن كلاهما توازنا معينا، يجب عليهما القيان بواجبهما، ويجب أن يضطلع كل واحد من جهته بمسؤولياته من أجل تدعيم التماسك والحفاظ على تجانس خلية الأسرة وبنية اجتماعية متلاحمة. وذلك راجع لكون أي إهمال من قبل أحدهما يسبب اختلالا في التوازن قد تكون له تبعات على تربية الأطفال، وبالتالي يشجع على الانحراف ويزيد في ارتفاع معدل أطفال الشوارع وغيرها من الظواهر التهميش الاجتماعي.
شهادات
حتى أجعل مداخلتي أقرب إلى الواقع، ارتأيت أن أسمِع صوت نساء يعشن الهشاشة بشكل يومي. ونشير هنا إلى أن القليل من النسا يقبلن التحدث عن وضعية الهشاشة التي يعشنها لأنهن يضعن هذا الموضوع في خانة المحرمات ولا يستطعن تجاوز ما يعتبرنه مركب نقص.
ولا شيء أكثر واقعية وتعبيرا من الواقع الباطن لبعض النساء المتواجدات هنا لأجل غيرهن، ضحايا النفق المسدود الذي ألقين فيه. وهذا مثال خديجة التي تبلغ من العمر 38 سنة والمنحدرة من العالم القروي. زارت خديجة المدينة لأول مرة في حياتها لتعمل كخادمة بالبيوت، وهو نوع من الاستعباد الأبيض، من أجل دعم المردود الضعيف لقطعة الأرض الصغيرة التي تعود لأبيها المسن، ومن أجل أن تمنح لأسرتها راتبا لم تر له لونا ولم تشم له رائحة. وفي مسار عشوائي، من بيت لآخر، عرفت جميع أشكال الاستغلال قبل أن تعلن ثورتها على مجتمع لم يقدم لها أي شيء، حسب قولها. هكذا قررت خديجة أن تتجه مباشرة إلى الدعارة التي تمارسها منذ أزيد من 8 سنوات، بعدما جربت مهنا صغيرة كتكملة عدد.
وتقول خديجة: "حاليا"، لم تعد "السوق" كما كانت عليه، "فالزبناء" صاروا أكثر إلحاحا، ومنافسات جديدات، أصغر سنا وأكثر أناقة وجاذبية، غزون الساحة ويقدمن "خدمات ذات مردود أفضل".
أما صديقتها فاطمة، المنحدرة هي الأخرى من وسط فقير، فوجدت نفسها فجأة واقعة في فخ أقدم المهن، والتي لم تخترها، وذلك بعدما حاولت الخروج من صورة المطلقة التي كانت تعتبر عارا في وسطها. ومنذئذ، بدأت هروبا حائرا في مسار دهليزي بدور الدعارة المحفوفة بالمخاطر، حيث زج بها في السجن عدة مرات، فقط كي تضمن لقمة عيش أطفالها من طليقها وتثبت وجودها.
فيجب سماع نواح تلك النساء بحساسية شديدة، ذلك أنهن بحاجة لمن ينصت إليهن. وقد صار كلامهن شاذا وسوقيا حيث الجملة الهوجاء والعبارة العارية تحبس أنفاس من يستمع إليها. إنها صورة قاتمة، لكن ما يزال هناك صوت دقيق لما تكبدته النساء، عينة لأخريات كثيرات في مجتمعنا.
وواقع تلك النساء هو التهميش، بكل أشكاله. فالمرأة ترث نصف ما يرثه الرجل وتظل ضحية جشع زوجها أو أخيها الذي ينتزع منها حصتها. ومن جانب آخر، فهي ضحية الإحساس بالدونية ومعرضة للتدنيس نتيجة خيانة يتساهل معها مجتمع ذكوري غير عادل، وأمام مثل هذه الوضعية، تفوح راحة الانتقام. وتعرف المرأة المهانة والمُساء إليها والمعنفة والمغتصبة الكره بدرجات مختلفة، وتتحول الشراسة لديها إلى انتقام وأحيانا إلى جريمة شنعاء.
وفي بعض الأوقات، تلجأ المرأة إلى حلول مسالمة وأكثر خضوعا، فتنأى إلى الصبر والصمت، في تعبير هو الأرقى عندما يعجز اللسان عن التعبير عن ألمها، لعل الآخر يتحلى بمزيد من ضبط النفس لأجل أن يرتب أفكاره ويظهر نضجه ورفعته من خلال التأمل في وضعية المرأة، حتى يتم تجاوز الصراع الأبدي بين الجنسين في علاقة القوة بينهما، ترقبا للإنصاف والمصالحة الاجتماعية.
واليوم لا نكُف عن الترديد بان النساء وصلن إلى جميع المناصب المسؤولة، في حين أن الواقع مخالف تماما، لأنه ما تزال هناك عوائق أمام تفتحن. ففي الميدان السياسي مثلا، تكون المرأة مطالبة بكفاءات ومردود أكثر من الرجل، وعندما يمنح لها منصب ما، فإنه عادة ما يكون أقرب إلى ما هو اجتماعي منه إلى ما هو مالي.
وحسب تقارير لتحقيقات أجريت، ما يزال العنف مهيمنا، ويظل الميز الجنسي وفوارق النوع الاجتماعي واقعا اجتماعيا-ثقافيا راسخا في المخيلة، كما تبقى الظروف النسائية المرتبطة بإكراهات اجتماعية-اقتصادية ظروفا منحطة.
المقترحات
على ضوء ذلك كله، يبقى ملف حقوق الإنسان مفتوحا. ومن هنا ضرورة مواصلة النضال ومضاعفة الجهود والنقاشات واللقاءات مع إشراك المسؤولين من جميع القطاعات والتخصصات والانفتاح على القوى الفاعلة من أجل محاربة الحواجز المعرقلة للتنمية. ولا يكفي الالتزام بتوقيع الاتفاقيات، بل يجب إحداث لجنة لمتابعة تطبيقها من أجل المضي قدما في النقاش.
- يجب إحداث مرصد وطني للنوع الاجتماعي ولجنة سامية لشؤون المرأة، وهي المبادرة التي ستكون بمثابة تتويج لجهود شبكات الجمعيات النشيطة بالمغرب، بشتى مشاربها، والتي تشكل ركائز في المساعدة الاجتماعية وتعرف بديناميتها الجغرافية وتحليلها الاجتماعي الدقيق الذي يشمل كافة المناطق.
- يجب السعي وراء مواصلة الأنشطة الإنسانية الخارجية والمحلية بالتوازي، خاصة في المناطق المعزولة، لفائدة النساء اللاتي لا يعشن أنوثتهن بشكل لائق، في المجال الطبي الوقائي، مثلا.
- التشخيص والتقييم انطلاقا من التحقيقات مع الاستعانة بمراكز دراسية متخصصة، والبحث لدى خلايا التفكير عن الإجراءات المستعجلة الواجب اتخاذها وعن خطط العمل المحتمل إعدادها وتنفيذها والمصاريف اللازمة (البحث عن مصادر التمويل) وآليات المتابعة الواجب وضعها.
- تقييم الحاجيات من أجل تحديد سياسات جديدة في مجال مقاربة النوع الاجتماعي مع إحداث مراكز دراسية في هذا الاتجاه بالتعاون مع المنظمات الدولية العاملة في نفس الاتجاه، وإشراك الفاعلين في التقييم، خاصة المنظمات المستقلة.
- وضع برامج لإعادة الإدماج.
- التوعية بشأن التخطيط من أجل تنظيم النسل.
- تحسين التنسيق القطاعي من أجل مضاعفة الأثر التنموي.
- الزيادة في ميزانية التنمية وغلاف الموارد.
- تشكيل رؤى للتنمية من خلاق تشجيع إحداث مشاريع وإيصال المساعدات والإفادة بها.
- إشراك العمال المهاجرين وتشجيعهم على الاستثمار في مشاريع تنموية، وبالخصوص الانفتاح على الكفاءات الدولية.
- حث النساء على المشاركة الفعالة في تدعيم صورة المرأة ومختلف الأنشطة المنجزة لفائدتها.
- وضع برامج عمل محددة في شكل إجراءات أولية تستهدف إشراك المرأة في الشأن السياسي وفي مراكز صنع القرار، بالاستحقاق لا بالكوطا.
- اتخاذ مجموعة من الإجراءات المجدولة بشكل جيد يتحمل فيها المسؤولية المؤسسات والمنتخبون المحليون والباحثون، مع وضع آليات متابعة في مجال مساعدة النساء في وضعية هشة.
وإذا كانت الدولة لا يمكنها الإحاطة بكل شيء والقيام به، فإنها بحاجة إلى هؤلاء النساء والرجال لتتمكن من تحقيق الانتقال الديمقراطي، وهو الأفق الذي يتطلع إليه المغاربة قاطبة. ومن دون النساء ستكون تلك الديمقراطية متهافتة. فلنمد أيدينا إلى النساء ونضعها في أيديهن؛ معا نحقق المعجزات.
وشكرا على تعاونكم