تؤكد التقارير الصادرة عن الجامعة العربية، منظمة العمل العربي، والأمم المتحدة، والتي تضمنتها تقارير التنمية الإنسانية العربية، إن فقط 5.4 % من الطلبة العرب الذين يدرسون في الخارج يعودون إلى بلدانهم بعد الانتهاء من دراستهم، كما أن هناك أكثر من مليون من حملة الشهادات العليا والخبراء يعملون في الدول المتقدمة، وأن هجرة العقول العربية تمثل نصيب الأسد بين كل الدول النامية بنسبة 31 %، فمثلا 34 % من الأطباء الأكفاء الذين يعملون في بريطانيا ينتمون للجالية العربية.
أربعة مليون خبير
في هذا الأسبوع خصصنا برنامج جسور الحواري للحديث عن هذه الظاهرة، وذلك بالتعاون مع إذاعة فرح الناس في الأردن، حيث استضفنا الدكتور سعيد حمديوي، أستاذ النانو تكنولوجي في جامعة دلفت التكنولوجية بهولندا، ومن عمان كان معنا أستاذ علم الاجتماع المشارك حسين الخزاعي، الذي يطلق على هذه الظاهرة "نزيف العقول"، مؤكد أنها مرض مستعصي لم تتم السيطرة عليه بعد، كما يؤكد أن معظم الأقطار العربية ما عدا دول الخليج تعاني من هذا النزيف منذ الخمسينات والستينات، وأن أعداد العقول المهاجرة تتزايد يوما بعد يوم، ويضيف الدكتور الخزاعي قائلا:
"يؤكد جهاز الإحصاء المركزي في مصر أن هناك 600 عالما مصريا من العلماء النادرين موجودين في الغرب، وأن عدد العقول المهاجرة من مصر لوحدها وصل إلى 854 ألف عالم وخبير، أما من جميع البلدان العربية فالأعداد تتجاوز الأربعة مليون من خيرة الكفاءات جميعهم ولدوا ببلدانهم ثم هاجروا".
عشرة دولار سنويا للبحث العلمي
ويرى الدكتور الخزاعي أن الأسباب التي دفعت هؤلاء للهجرة هي أسباب مركبة، وأهمها عدم توفر الأمن والاستقرار، وعدم توفر مجالات العمل والتخصصات التي تخصص فيها هؤلاء العلماء، ويضيف الدكتور الخزاعي قائلا: "للآسف الشديد ينفق الوطن العربي 600 مليار دولار على شراء الأسلحة، بينما ينفق 60 مليون على البحث العلمي، في حين تذهب أربعين في المائة من موازنة الجامعات في أمريكا للبحث العلمي، بينما لا تتجاوز أفضل جامعة عربية نسبة واحد في المائة من موازنتها للبحث العلمي، كما أن الظروف الاقتصادية الضاغطة، وعدم توفر الحياة المريحة يدفع العقول إلى الهجرة".
لا تتجاوز حصة المواطن العربي من موازنة الإنفاق على البحث العلمي عشرة دولارات في السنة، بينما تبلغ في ماليزيا 33 دولارا، أما في فنلندا فوصلت إلى أكثر من ألف دولار سنويا، ووفقا للدكتور الخزاعي فإن ستين في المائة من الطلبة الأردنيين الدارسين بالخارج لا يعودون إلى وطنهم، بالرغم من مواجهتهم للكثير من الصعوبات في بلد المهجر، مثل الاندماج والتكيف مع مجتمعات أخرى، وثقافات مختلفة.
200 مليار دولار خسائر
تستقطب هولندا العديد من العقول المهاجرة، وتشجع مثل غيرها من بلدان الغرب على هجرة العقول نحوها، بالرغم من التشدد في قوانين الهجرة، ولكنها أيضا تعاني من هجرة عقولها باتجاه الولايات المتحدة، حيث توجد أفضل بيئة لهجرة العقول والعلماء، ومؤخرا فاز بجائزة نوبل للفيزياء عالمان احدهما هولندي، والثاني أمريكي، ولكنهما في الحقيقة روسيان، الأول حصل على الجنسية الهولندية العام الماضي، وبالتأكيد لولا هذا المهاجر الروسي لما توجت هولندا بهذه الجائزة هذا العام.
وفقا للدكتور حسين الخزاعي فإن القطاعات التي تشهد أكبر معدل للهجرة وخاصة في الأردن، هي القطاعات الطبية، وتليها الهندسية ثم التخصصات الأخرى، ويضيف قائلا: "في العام الماضي قدرت الخسائر في البلدان العربية بسبب هجرة العقول بحوالي 200 مليار دولار، وهو مبلغ بامكانه أن يؤمن لهؤلاء أفضل المختبرات، وأرقى الجامعات بعشرة بالمائة من هذه الخسائر، وأهم سبب طارد لهؤلاء العلماء في بعض البلدان العربية، هو الأوضاع السياسية العراق مثلا، فمنذ عام 1990 بعد حرب الخليج الأولى، وإلى غاية الآن لا تزال العقول العراقية تنزف بشدة، وهي الآن في أوروبا وأمريكا تحتل الترتيب الأول بعد مصر".
البيروقراطية
ويؤكد الدكتور الخزاعي أنه لا يلوم العلماء وإنما يضع اللوم على السياسات الخاطئة، والمسئولين عن قطاعات التعليم والبحث العلمي، ويضيف الدكتور الخزاعي قائلا: "أحيانا عندما يبعد شخص في حقل ما يخشى الآخرون على كراسيهم وسلطاتهم، ولهذا السبب لا توجد ولا جامعة عربية واحدة بين أفضل 500 جامعة في العالم".
يشير الدكتور الخزاعي إلى أن أكثر شيء مؤلم بالنسبة للأكاديمي العربي هو الجانب الإداري، وخاصة عندما تشيخ الإدارات غير المؤهلة، ويقول إن هناك 4.5 مليون طلب للهجرة في جميع السفارة الغربية بالدول العربية، وهو ما يعني أن الظاهرة ستتفاقم في المستقبل.
من تعرف وليس ماذا تعرف!
الدكتور سعيد حمديوي أستاذ النانو تكنولوجي بجامعة دلفت الهولندية، يقول إن الأسباب التي دفعته إلى الهجرة تتشابه إلى حد كبير مع الأسباب التي جعلت بقية الأدمغة تهاجر، ويضيف قائلا:
"هناك عوامل كثيرة أولها أنه في أوطاننا ما هو مهم هو ليس ماذا تعرف ولكن من تعرف، ليس في كل الأقطار العربية ولكن في أغلبها، وإذا كانت لك طموحات في الذهاب بعيدا باعتبار أن ربك رزقك ذكاء ومهارات، فليس أمامك إلا الهروب والهجرة إلى الخارج، هذا جانب أما الجانب الثاني فلا أعتقد أن في أوطاننا توجد جامعات، أو مراكز بحث متطورة يمكنها أن تنافس مراكز البحث العلمية العالمية، وبالتالي فمن أراد العلى عليه أن يهاجر إلى الخارج".
أما بخصوص شعوره عن الرضا في الخارج، وتقديم منجزاته العلمية إلى بلاد غير بلاده، فيقول الدكتور حمديوي: "هناك شعوران أولها أن المجتمع الجديد الذي تتواجد فيه يعطيك كل الفرص، ويوفر لكل كل ما أنت محتاج إليه، من أجل أن تنتج أكثر وأكثر، ولكن صحيح فكل ما تنتجه يذهب للغير، وليس لوطنك وأهلك، وفي ظل الوضع الحالي، وفي ظل الظروف التي نعيشها في أوطاننا ليس هناك بديل، من الممكن أن تقول علينا أن نرجع مرة أخرى إلى أوطاننا، ولكنني على يقين بعدة مدة لن تتجاوز سنة أو سنتين، سنكون مرغمين من جديد للهجرة إلى الخارج".
المصدر: إذاعة هولندا العالمية