تبقى هجرة الأوطان، وبامتياز، ظاهرة عالم-ثالثية لصيقة بالفقر الذي يدفع بألوف الأشخاص إلى ركوب المخاطر رغبة في تحسين أوضاعهم. لكن لما تمس الهجرة أشخاصا ينحدرون من بلدان نامية وديمقراطية تتغير الأسباب والشروط. ما الأسباب التي تحذو بشخص إلى التخلي عن امتيازاته لاختيار العيش في بلد أجنبي؟ حالة فرنسا نموذجية في هذا المجال. إذ بسبب الأزمة الاقتصادية أو بسبب تضييق الخناق على المبادرة الشخصية وثقل البيروقراطية، بسبب النظام السياسي أو انغلاق الأفق الثقافي، رحل العديد من الفرنسيين والفرنسيات، يقدر عددهم بـ 2,5 مليون فرنسي، للعيش في بلدان أخرى.
كورين ميير من بين هؤلاء الفرنسيين الذين حجزوا تذكرة ذهاب من دون إياب نحو وجهة أخرى. وقد عبرت عن ذلك جهرا في كتابها الأخير الصادر عن منشورات فلاماريون بعنوان «وداعا فرنسا «
غادرت الكاتبة فرنسا منذ أربع سنوات لتستقر في بروكسيل ولتحتك بسلوكات ومعاملات من نوع آخر، «لا عجرفة ولا دروس في الأخلاق» كما هو الحال في فرنسا. الأشخاص الذين يفتقرون إلى الحس الأخلاقي وإلى اللياقة في المعاملات الذين التقتهم في بروكسيل هم الفرنسيون الذين يعملون في السفارة!
حين عبرت الكاتبة أمام الناشر عن رغبتها في تأليف كتاب عن تجربة مغادرتها، بل نفيها الطوعي من فرنسا للعيش في بلجيكا، لأسباب شخصية، صدرت عن الناشر الملاحظة التالية: «تسعين إذن إلى تأليف تهجم قادح ومناهض لبلدك؟ المسألة خطيرة...ثم من أنت حتى تتطرقين لمثل هذه المواضيع؟ بإمكان الإنجليز والأمريكيين والأجانب الكتابة عن فرنسا، خصوصا إن كانوا يعشقون البلد..أما أنت فإنك فرنسية. صحيح أنك سويسرية المولد وتعيشين في بلجيكا، غير أن ذلك لا يمنحك شهادة الكوسموبولية
فرنسا هي بالكاد بلد ساحر وبجاذبية أخاذة، يستهوي السياح وعشاق الطبخ. بلد يليق بأصحاب الدبلومات العليا في سن الأربعين، متزوجين وبثلاثة أو أربعة أطفال، بيض وتابعين للديانة الكاثوليكية. أما بالنسبة للبقية فالوضع يختلف تماما، لأنهم يقضون قسما كبيرا من وقتهم في البحث عن عمل، في طلب سكن، في الصراع مع الإدارة، في الاحتراس من الجيران ورفاق الشغل، حيث يتطلب إعداد أبسط الأشياء الإدلاء بوثائق تعجيزية. تبقى فرنسا في نظر هؤلاء، وخاصة في نظر الشرائح الشابة منها، بلدا مكتئبا.
تلاحظ الكاتبة بأن جميع المرشحين للهجرة لا يجدون عناء في الحصول على سكن في بلجيكا، على شغل في إنجلترا، أو أمريكا، ودون بقشيش، كما أن راتبهم يكون محترما في بلدان مثل إسكندينافيا أو سويسرا. أما في السويد أو النرويج فتنعدم الرشوة تماما. في هذه الدول تكون قاعدة اللعبة الاجتماعية واضحة للغاية، لأن حقوق وواجبات الأفراد شفافة. لما تعدون حقائبكم، فإن البلد الوحيد الذي يجب تجنبه هو إيطاليا، وهو بلد أسوء من فرنسا وعلى أكثر من صعيد، تشير كورين ميير.
يأتي هذا الكتاب على ذكر مقارنات وانطباعات ونكت، من الموضوعي إلى الذاتي، وهو يتراوح بين الخفيف والثقيل. كما أنه تأملات وخواطر. وهو يسخر من فرنسا، هذا البلد الذابل، الثقيل، الذي يعطي الدروس للآخرين. هذا البلد الذي تسمع فيه باستمرار جملة: «أعتقد أن المسألة غير ممكنة». هذا البلد الذي تعطى فيه الأسبقية للنظام على حساب الفرد. هذا البلد المعقد الذي يجب أن تقيم فيه طيلة أجيال لإدراك كنهه. هذا البلد الذي تعلوه أسلاك خفية. هذا المكان الذي يقطنه أشخاص ناقمون.
كفى كليشيهات
بلد السعادة، الجنس، الحفلات وحرية التفكير والإبداع... إنها الصورة التي تروجها فرنسا عن نفسها. غير أن هذه الصورة مزيفة من الأساس، تشير الكاتبة.
فرنسا بلد السعادة؟ تدحض الكاتبة هذه الفرضية، مشيرة إلى أن المواطن الفرنسي على العموم شخص تعس، يعيش حالات من الاكتئاب الحاد. لا يكف الفرنسيون عن التشكي من بعضهم البعض: الأطباء يشتكون من الدولة، الأساتذة من وزارة التربية، والأطر من المؤسسات التي يعملون بها. العيش في فرنسا معناه تحمل هذه الشكاوى. يبدو المستقبل في فرنسا دون آفاق، بمعدل للانتحار يفوق مرتين ما هو عليه في إنجلترا، إذ إن فرنسا هي أحد البلدان التي يضع فيها المواطنون وبسهولة حدا لحياتهم بمعدل 16 حالة انتحار لكل 100000 مواطن. فالعديد من الاستفتاءات والإحصائيات تظهر تعاستهم مقارنة بجيرانهم. إن معدل «السعادة الوطنية الخام» ليس على ما يرام، تقول الكاتبة.
هل فرنسا كما يشاع بلد السخرية والمرح؟ تلك فكرة خاطئة لأنه في ظل الأزمة الحالية، يفكر الفرنسيون في كل الأشياء ما عدا الترويح عن أنفسهم، لأن السخرية وليدة السعادة. وبما أن السعادة اختفت من المشهد، فإن السخرية المهيمنة لا تعدو كونها سخرية سخيفة ومن الدرجة الثانية. فالفرنسيون لم يعودوا يعقدون أي أمل على السياسة، التي تعتبر اليوم دينا ميتا. ما العمل إذن في غياب السخرية ومشاريع جماعية جدية؟ يدخل الفرنسي في مسلسل «الدلع»،
يتمتع بنظام الضمان الاجتماعي، الذي يعتبر حسب المنظمة العالمية للصحة من أفضل الأنظمة في العالم، حيث المستشفيات معدة بأحدث التجهيزات والأطباء على أحسن تكوين. تبدو فرنسا كجنة للمرضى، لكن هذا الوضع مرشح لتغييرات راديكالية. ذلك أن الخصاص في الأطباء، الذي فرضته الدولة عبر سياسة «الكوتا»، سيترجم في السنوات القادمة بإغلاق الكثير من وحدات العناية الطبية. وفي غياب الأطباء ستبقى الأدوية ملاذا للمرضى. وحسب الكاتبة، «تبقى فرنسا ملكة استهلاك الأقراص».
إذ يعتبر الفرنسي من كبار المستهلكين للحبوب. رشح، ضربة برد تستدعي وصفة طبية. كما أن 90% من عيادات الطبيب تنتهي بوصفات طبية مقابل 43 % مثلا في هولندا.
متعة فاشلة
يقال إن فرنسا هي بلد «الحب دوما وأبدا» ويعتبر الفرنسيون أنفسهم سلاطين أوروبا في التودد للنساء والإباحية، مفتخرين بممارسة الجنس 120 مرة في السنة، بمعدل يفوق مرتين في الأسبوع، وهو إنجاز يفوق المقياس أو المعيار الدولي الذي يحدد في 103 علاقات في السنة. وأسبوعيا، تعالج المجلات موضوع الممارسات الجنسية الجديدة، وتتجند النساء في المكاتب لتربية رفيقات العمل في كيفيات الإرضاء الجنسي للصديق أو الزوج. ومع ذلك ليست فرنسا جنة الجنس. إذ ربع الفرنسيين فقط يعبرون عن ارتياحهم الجنسي. لا نستغرب إن لم تحمل أزقة باريس، مكاتبها، مدارسها اسم الماركيز دو ساد. 40% من المساجين يوجدون رهن الاعتقال بسبب جرائم جنسية. كما أنه ينظر للبورنو، أفلام الدعارة، بنوع من الحيطة، لأنها ممارسة وافدة من شمال أوروبا، ثم لأنها تعتبر تجارة دنيئة تستغل من دون خجل صورة المرأة .
أضواء باريس
إن جلبت باريس بسحرها، معالمها، وآثارها، السياح والفنانين، فإن الإقامة بها ليست من الأمور العادية. إذ يكتشف الزائر أن الباريسي شخص يحب العزلة وبأنه يضع بينه وبين الآخرين حواجز سميكة. ذلك أنه يقضي معظم وقته وفي الركض وراء مشاغله وشواغله. في جلسات العشاء، لا يعرف الباريسيون الانضباط الزمني، وحول الطاولة من الأفضل تجنب الحديث في المواضيع الشخصية مثل «هل أنت متزوج؟» و«ما رأيك في الرئيس ساركوزي؟». أما الأسئلة التي تخص أحوال الطقس، صعوبة الحصول على مأرب للسيارة، فتبقى من النقاشات المفضلة. يمكنك أن تتحدث في الثقافة بذكر آخر فيلم من إخراج ألمودوفار، أو المخرج وودي آلن، «الذي يطرح كل سنة فيلما سخيفا موجها بالخصوص إلى الجمهور الفرنسي». أما باريس الليلية فإن الحانات والعلب الليلية تغلق الواحدة بعد الأخرى. للإمتاع والمؤانسة من الأفضل التردد على برلين، برشلونة أو لندن.
استبدادية الأكل
المتعة.. إنها كلمة السر والشعار اللذان يحكمان معيش الفرنسيين. إذ أصبحت الطبقات المتوسطة تعبد اللذة ومتع الحياة. لما يفتقد الوجود للمعنى يتراجع الناس نحو الحواس. في فرنسا يجب معرفة وتقدير الخمور الجيدة، وطابق «الكاسولي»... بمجرد ما يشير المرء إلى أنه لا يستهلك لحم الخنزير، يصنف توا في خانة الأقلية، كيهودي أو مسلم! في فرنسا، ينظر إلى الشخص الذي لا يحب الأكل والشرب كإنسان غير سوي. الأشخاص الذين يجيدون الحديث في موضوع الأكل يفتحون العديد من الأبواب أكثر من أولئك الذين يجيدون الحديث في نتاج رولان بارث أو ميشال فوكو. يعتبر الفرنسيون أن الطبخ الفرنسي لا يعلى عليه، لكن الترتيب الذي أنجزته «مجلة المطبخ» أقصى الطبخ الفرنسي من الصفوف العشر الأولى، وهو ما اعتبره الفرنسيون «حكرة» لموهبتهم في الطبخ.
بلد مقطوع عن بقية البلدان
لا تعرف فرنسا شيئا يذكر عن جيرانها وعن الخارج اللهم ما تقدمه نشرات الأخبار. إن تردد الفرنسيون كثيرا في مغادرة بلدهم، فلإنهم لا يجدون أكثر من اللغة الفرنسية، التي ينظرون إليها كلغة لا تضاهي، عبارة عن «الجوكوندا»، محملة بفضيلة كونية. فالرئيس ساركوزي مثلا لم يتمكن من الحصول على ديبلوم مدرسة العلوم السياسية لأنه لم يكن يجيد اللغة الإنجليزية. كما أن لغة الضواحي تعد «خطرا على اللغة الوطنية»، واليوم يطلب من الأجانب التمكن منها!
وتابعت الكاتبة تعدادها لمساوئ فرنسا: بلد تعدد المناصب والوظائف، بلد يتحكم فيه العجزة، جمهورية موزية، التفاني إلى حد الموت في الشغل، تفشي الرشوة، البلد الذي تتفتت فيه الأقليات. كما أن فرنسا بلد أصبح فيه الخوف سلوكا عاما. يخاف أهله من العمال، من الشعب، من الشباب، من الأجانب. يخشى الكثيرون التعرض للاعتداء في الشارع، أو تعرض سكنهم أو سيارتهم للسرقة أو لكوارث طبيعية. يحتاطون من تزايد السرقات لحقائب اليد في قاعات السينما، في الميترو...إنها آفات لم يقدر أي وزير داخلية على استئصالها. اليوم، فرنسا أحد البلدان الغربية التي يعيش فيها المواطنون في حالة بالغة من القلق، وخاصة القلق على مستقبلهم وخوفا من السقوط في براثن الفقر. في مجال التشغيل يقال إن فرنسا بلد المنافسات. لكن المشاركة في تحديات المنافسات التي تخوضها الأمة ليست عملية بسيطة. فالبطالة الهيكلية ظاهرة مزمنة منذ أزيد من عشرين سنة، وفي هذا المجال تحتل فرنسا الصفوف الأخيرة. إذ تبقى أحد البلدان التي يصل فيها العامل إلى سوق الشغل متأخرا ليخرج منه باكرا. هكذا يبقى الرحيل في نظر الكاتبة الحل الناجع والأخير.
6/11/2010 المعطي قبال
المصدر: جريدة المساء