"جئت إلى هولندا لأجمع قليلا من المال ثم أعود إلى المغرب لأفتح دكانا أو أقتني شاحنة لاسترزق بها في بلدي. لم أجمع المال، ولم أعد إلى المغرب". يعتصر أحمد لمنادي ذاكرته ليقص تفاصيل رحلته من قريته الريفية نحو أوربا. "لم أسع إلى الهجرة ولم أكن أسمع عن شيء اسمه "الخارج" (أوربا). والدي من قال لي ذات يوم: هذا جواز السفر وهذا الشخص (أشار إلى رجل) هو من يوصلك إلى بلجيكا".
باخرة إسبانية
لم يكن يخطر على باله أنه سيهاجر. في الإعدادية الوحيدة آنذاك في الحسيمة (شمال) كان أحمد لمنادي يواصل دراسته ولا تتجاوز أحلامه الطفولية عتبات مدينته التي كانت في الستينات قرية صغيرة. انتزعه والده ذات يوم من الفصل وقال له: عليك أن تساعدني في الحرث والزرع. ولم يلبث أن هجّره نحو منطقة بركان الفلاحية (شرق) ليعمل في الفلاحة حتى يتقوى عوده ويصبح "رجلا". وفي إحدى الأيام الربيعية سلمه والده جواز السفر وهيأ له رفاق الطريق. حدث ذلك في أبريل من عام 1965، شهر بعد أحداث مارس الدموية في الدار البيضاء. وبما أنه مسجل في جواز السفر كطالب، كان رجال الأمن أكثر يقظة وترقبا ومراقبة للطلبة.
"عبرت حاجز الجمارك في ميناء الحسيمة وتبعني رجل أمن. انتابني شعور بالخوف، ولكن صوتا خلفي أمر رجل الأمن بالتوقف. صعدت على ظهر باخرة إسبانية كانت تأتي من مدينة سبتة محملة بالزاد لتموين الجزر الإسبانية على الساحل المغربي مثل بادس والنكور، وتعود إلى سبتة محملة بكل ما يجمعه الفلاحون الريفيون من بيض الدجاج".
كان أحمد ما يزال مراهقا ولم يبلغ بعد السن القانوني للحصول على جواز السفر. إلا أن والده الذي كان بمقاييس ذلك الزمن ميسور الحال، رتب له كل شيء ولو تطلب الأمر الزيادة في سنه. وهكذا أصبح المراهق بجرة قلم رجلا عليه مواجهة قدره بنفسه.
عمر افتراضي
لم يطب له المقام في بروكسيل فقرر مواصلة الرحلة نحو هولندا. "قيل لي في بلجيكا إن فرص العمل في هولندا أحسن"، فاستقل أول قطار دون أن يسأل عن الوجهة. يكفي أنه يسير في اتجاه هولندا. كان بصحبته مرافق سبق له أن زار هولندا. نزلا في مدينة أوتريخت في المساء فراحا يبحثان عن فندق للاستراحة. ولكن من يستفسرون؟ وبأية لغة يستفسرون؟
في ركن من المحطة سمعا أشخاصا يتحدثون في ما بينهم باللغة الإسبانية فتوجها نحوهم. كان الإسبان والإيطاليون في كل مكان لأنهم سبقوا المغاربة والأتراك في الهجرة إلى هولندا. "الحاجة قادتنا نحو الإسبان ليدلونا على فندق. فقالوا لنا: نعرف فندقا في زايست، وركبنا معهم حافلة أنزلتنا في زايست. دخلت هولندا يوم 5 يونيو 1965".
أكثر من أربعين سنة مرت وما يزال أحمد لمنادي في نفس المدينة كمن يصر على وقف عجلة الزمن. كمن خشي ركوب قطار آخر أو حافلة أخرى ربما سترحل به نحو وجهة غير معلومة، فقرر التشبث بمكانه. أحمد لمنادي تقاعد منذ خمس سنوات عن العمل، لكنه يبدو صغيرا مقارنة بسنه الافتراضي المسجل على أوراقه الثبوتية. إضافة سنوات إلى عمره الحقيقي ليصبح "رجلا" ويهاجر، أوصلته بسرعة إلى سن التقاعد القانوني. عمره الحقيقي الآن 62 سنة.
أول جمعية
حصل أحمد لمنادي على عمل يدوي شاق في معمل بقرية زايست، ولم يشفع فيه لا عمره (الحقيقي) الصغير ولا تعليمه المقبول مقارنة مع غيره من العمال. لكنه سرعان ما انخرط في العمل التطوعي الذي كانت ترعاه الكنائس وبعض الأحزاب ذات التوجهات اليسارية والاجتماعية. "لم تكن للعامل المهاجر حقوق، الأجرة ضعيفة والسكن غير لائق". وهذه هي العناصر الأولى التي بني عليه عمل أحمد لمنادي التطوعي، فأسس بمساعدة هولنديين متعاطفين"لجنة المهاجرين المغاربة في أوتريخت" وهي أولى الجمعيات المدنية المغربية في هولندا.
إلى جانب نشاطه التطوعي واصل عمله اليومي لكسب قوته وتحقيق حلم الرجوع إلى المغرب. " كنت أحصل على 35 خلدة (جلدر) في الأسبوع أدفع منها 30 خلدة حق السكن والباقي أخصصه لضرورات العيش". لا مجال إذن للتوفير. إنها حلقة مفرغة لم يسلم منها أي مهاجر. بيد أن عمله التطوعي مع المغاربة راكم لديه خبرة لا تقدر بثمن، مما حدا بمؤسسة حكومية تهتم بقضايا الهجرة والمهاجرين إلى الاستعانة بخبرته فأصبح موظفا. "لم تكن لدي لا خلفية تعليمية في الميدان الاجتماعي ولا شهادة، ولكنني كنت أتوفر على خبرة ميدانية. بدأت العمل وفي الوقت نفسه انتظمت في الدراسة حتى حصلت على دبلوم المدرسة العليا في العمل الاجتماعي".
أنهى أحمد لمنادي مشواره المهني مديرا لمؤسسة جهوية تعنى بقضايا الهجرة والمهاجرين، وهو الآن متقاعد يوزع وقته بين قريته في هولندا وقريته في الريف بشمال المغرب. وما يجمع بين القريتين قلب واحد يسكن جسدين.
المصدر: إذاعة هولندة الدولية