شكلت الهجرة والترحال حاجة ضرورية للإنسان منذ زمان، فكانت إما مؤقتة أو دائمة، تحكمها في الغالب حاجات أولية كالبحث عن القوت والماء والكلأ، أو هروبا من بعض الأخطار المحدقة بالإنسان، أو بحثا عن معارف وخبرات حياتية جديدة، أو إرضاء لفضول ما، أو بحثا عن متنفس وفضاء أرحب للعيش. صاحبت هذه الهجرات كتابات وأعمال إبداعية كشفت عن العديد من الأوجه الخفية لبلدان الهجرة، وعن المعاناة والانكسارات، التي لحقت ببعض المهاجرين، أو عن بعض النجاحات والمكاسب، من تبادل الخبرات والمعارف، فلم تخل أغلب تلك الكتابات من الجراحات والتمزقات، وأحاسيس الحنين والغربة والاجتثاث، التي شكلت الميسم الرئيسي لتلك الأعمال، التي لم تتحدث عن الهجرات فقط إلى البلدان الغربية، بل تناولت مسألة الهجرات الداخلية بين الأوطان العربية، خاصة بعد نكبة 1948، وهزيمة 1967، ونزوح مئات الآلاف الفلسطينيين إلى الشتات في الأردن، ولبنان، وسوريا، والولايات المتحدة الأميركية، وكندا، وباقي أقطار العالم.
ولأن مسألة الهجرة أضحت تحتل مكانة مهمة في المجتمعات العربية، وخصصت لها مؤسسات ومجالس، ولأن الكتابات التي تناولتها، وخاصة الأعمال الروائية، احتلت مكانة كبيرة في المشهد الروائي العربي، وعرفت تحولات كبيرة وتنوعا في التجارب الروائية، عمد الكاتبان والباحثان المغربيان حسن نجمي وعبد الكريم الجويطي، إلى رصد تيمة الهجرة في الرواية العربية منذ عصر الرواد إلى الآن، وتقديم نظرة شبه شاملة عن خرائط الهجرة والاغتراب، التي جاسها المواطن العربي، في كتابهما الصادر، حديثا، عن "دار مرسم للنشر" بالرباط، بدعم من مجلس الجالية المغربية بالخارج، تحت عنوان "أنطولوجيا الهجرة في الرواية العربية"، الذي جرى تقديمه في المعرض الدولي الأخير للنشر والكتاب بالدارالبيضاء.
"أنطولوجيا الهجرة في الرواية العربية" كتاب يقع في 477 صفحة من الحجم المتوسط، يضم إهداء وتقديما لإدريس اليزمي، رئيس الجالية المغربية بالخارج، وخمسة استهلالات، ومدخلا عاما يعرف بهذا الكتاب بقلم المؤلفين حسن نجمي، وعبد الكريم الجويطي، ويوفر أداة عمل للتعرف على خريطة الكتابة الروائية والسردية العربية المعاصرة، التي تناولت تيمة الهجرة، منذ عهد الرواد، بدءا بطه حسين، ومحمد حسنين هيكل، ونجيب محفوظ، وعلي الدوعاجي، ومحمود المسعدي، وصولا إلى أحدث الروائيين سنا وتجربة، مرورا بإدوارد الخراط، ومحمد برادة، وإلياس خوري، وإبراهيم الكوني، والطاهر وطار وغيرهم، عن طريق تقديم تعريف مقتضب بهم، ونشر مختارات من أعمالهم الروائية، التي تتجسد فيها تيمة الهجرة وإشكالاتها، ويصل عدد أولئك الكتاب إلى 83 كاتبا، من مختلف البلدان العربية.
وفي تقديمه لهذا الكتاب ذكر إدريس اليزمي أن مجلس الجالية المغربية بالخارج، يسعى من خلال هذا الكتاب، الذي أشرف على إعداده وتنسيقه وتقديمه الأديبان المغربيان حسن نجمي، وعبد الكريم الجويطي، إلى تعميق النظر في سؤال الهجرة المغربية والعربية إلى العالم، والاقتراب من أشكال حضور هذه الظاهرة الإنسانية في المتخيل الحكائي والروائي العربي.
وأضاف اليزمي أن هذا الكتاب الأنطولوجي "يقترح علينا بعضا من خرائط الهجرة في الرواية العربية. ومع أن قراءة هذا العمل ستفتح لنا أفقا للاطلاع على جملة من التجارب المختلفة مع الأمكنة والفضاءات، والعلائق والثقافات الاجتماعية المختلفة، التي عاشها أو رصدها الروائيون العرب من مختلف الأجيال والأسماء والأقطار العربية، فإننا نراهن أساسا على المضي، من خلال هذا العمل، وكذا من خلال عدد من المبادرات الثقافية والإبداعية التي اتخذناها )منشورات، معارض، ندوات، لقاءات...( نحو إعادة بناء الخطاب الوطني حول الهجرة المغربية إلى الخارج".
وفي تقديمهما لهذه الأنطولوجيا ذكر الكاتبان حسن نجمي وعبد الكريم الجويطي أن "تيمة الهجرة كانت حاضرة على امتداد التاريخ القصير نسبيا للرواية العربية، إذ أتاحت هذه التيمة للرواية معالجة الإشكالات المعقدة للعلاقة مع الآخر، واستشراف أبعادها وتقليب أوجهها، خاصة أن التحدي الأكبر الذي واجهه الوعي العربي منذ النهضة العربية، هو الأخذ بأسباب التقدم والتطور دون الذوبان في الآخر، أو الخضوع له. لقد كانت الرواية فضاء فسيحا لتمثيل حيثيات هذه العلاقة المعقدة، وتجريب مواجهة أفكار الذات والآخر بعضها ببعض، وكشف الجوانب الإنسانية المأساوية، في الغالب، لسوء الفهم، والأفكار المسبقة، ولحياة الغرفة في حد ذاتها، وفراق الأهل، ومواطن الطفولة".
وأشار الكاتبان إلى أن الرواية العربية على امتداد هذا التاريخ لم تبرح في تناولها للهجرة الإشكاليات التالية:
- إشكالية المثاقفة: أي الإفراط في وصف الآخر وكل ما يحيط به، ومقارنة ذلك مع الذات العربية.
- إشكالية التنميط: الروايات العربية اجترت الأشكال التنميطية لعلاقة الشرق بالغرب، من قبيل روحانية الأول ومادية الثاني.
للإشارة فالأسماء المختارة في هذه الأنطولوجيا والنصوص تقدم صورة بانورامية عن كيفية تناول الراوية العربية للهجرة، ومن بين تلك الأسماء: يحيى يخلف، وعمرو القاضي، وغالب هلسا، وخليل النعيمي، وأمجد ناصر، وعبد الرحمان منيف، وحنا مينة، وحسونة المصباحي، وعبد الرحمان مجيد الربيعي، وغسان كنفاني، وعبد الله العروي، وحنان الشيخ، ومحمد زفزاف، ويحيى حقي، وطه حسين، وحيدر حيدر، وأمين الزاوي، ويوسف زيدان، وعبده جبير، وصلاح الدين بوجاه، وسحر خليفة، وسليم بركات، وسهيل إدريس، وصنع الله إبراهيم، وآخرون.
18/3/2011، سعيدة شرف