توسل الرجل بإلحاح، مربتا بيديه على جيب شخص أجنبي مكررا كلمة واحدة: «طعام. طعام. طعام». علق مئات العمال المهاجرين بسبب الحرب في ليبيا ليلة الخميس خارج بوابة ميناء هذه المدينة، الواقعة منذ فبراير (شباط) تحت سيطرة قوات معمر القذافي. وتقع الكثير من المعارك عبر الكثير من المناطق داخلها. وتوالي القوات الموالية للقذافي إطلاق الذخيرة الحية والصواريخ على المناطق السكنية. وقد انقطعت الكهرباء عن معظم المناطق تقريبا.
وقال فهد محمد، 50 عاما، مزارع من مصر: «نحن هنا منذ 56 يوما». وأضاف: «كما ترى، نحن جالسون فقط في الطريق».
وتحدث رجل آخر، يدعى أمان عبد اللطيف، قائلا: «نحن نرغب فقط في مغادرة ليبيا». وقد تملكت العمال حالة من القلق الواضح. ورست بعض السفن على أرصفة ميناء مصراتة لنقل العمال الراغبين في الخروج من ليبيا بحثا عن الأمان. إلا أن آلاف العمال ما زالوا ينتظرون وهم غير موقنين متى سيأتي دورهم. وتشير تقديرات غير مؤكدة إلى أنه قد لقي نحو 1000 شخص مصرعهم إبان فترة حصار مصراتة. وذكر مسؤولون طبيون أن 23 شخصا على الأقل قتلوا، وتعرض عدد أكبر لإصابات بالغة في وقت مبكر من يوم الخميس إثر سقوط وابل من صواريخ بلغ عددها 80 صاروخا أو أكثر بجانب الميناء. وكانت هناك سفن شحن محطمة ومحترقة ليلة الخميس. وتصاعدت الأدخنة في أماكن مختلفة بالمدينة.
وتقدم مستشفى مصراتة أدلة على حجم الأضرار التي أسفر عنها هذا القتال. فخارجها، ثمة مشهد أظهر الحالة المذرية التي وصل إليها الثوار الليبيون: سيارة سوداء مهشمة في ساحة وقوف السيارات انحنى حاجز اصطدامها وتحطم مصباحها الأمامي وغطت الدماء مقعد السائق وبابه. وكان السلاح الوحيد، الملقى أسفل مقعد السائق، سيفا.
وبداخل المستشفى، تجمع الأطباء والممرضات حول فراش أروى بعوا، 6 أعوام، التي أصابت قذائف الشظايا جذعها ورقبتها. ولمست إحدى الممرضات كاحلها، مستشعرة نبضها. تمكنت الفتاة من البقاء على قيد الحياة، رغم أن أصوات طلقات المدافع بالخارج وأصوات الانفجارات التي كانت تسمع من وقت لآخر ليلا أوضحت أنه في ظل حصار قوات القذافي لمدينة مصراتة، من المنتظر أن تكون هناك المزيد من الإصابات، ومزيد من الأسباب التي تدفع العمال المهاجرين، الذين ما زالوا قابعين على طول الطرق إلى الميناء، يريدون مغادرة البلاد.
ودخلت سفينة تحمل اسم «أيونيان سبيريت»، وهي سفينة ركاب مؤجرة من قبل منظمة دولية، مدينة مصراتة ظهيرة يوم الخميس بهدف إنقاذ العمال، بعد رحلة استغرقت ما يقرب من 19 ساعة من بنغازي، عاصمة الثوار في شرق ليبيا.
وذكر جيريمي آر إيه هاسلام، رئيس فريق الاستجابة للكوارث على متن السفينة أن مهمتها ملحة.
وكانت سفينة الركاب زاهية اللون التي عادة ما تبحر إلى الشواطئ اليونانية والإيطالية والألبانية، «أيونيان سبيريت»، مؤجرة من قبل المنظمة الدولية للهجرة، والتي تأمل في أن تقل 800 على الأقل من العمال المهاجرين الذين يزيد عددهم عن 6500 عامل والذين قد حبسوا داخل مصراتة، ثالث أكبر مدينة ليبية.
وعلى مدار عدة أسابيع، كان عسكر آلاف العمال المهاجرين على طول طريقين مؤديين إلى الميناء، حسبما ذكر هاسلام. وهم لا يمتلكون سوى أقل القليل من الطعام والشراب، كما لا يلقون الرعاية الطبية الكافية. وقد أصيب كثير منهم بالجفاف والإرهاق والإعياء.
لم يكن من الواضح بشكل مباشر أي العمال سيقع الاختيار عليهم ليتم نقلهم على متن السفينة «إيونيان سبيريت» العائدة إلى بنغازي. وذكر هاسلام أنه ومجموعة من العمال المساعدين سيقومون باستطلاع آراء العمال المحتشدين في الطريق والتعاون مع لجنة محلية من أجل محاولة تحديد من هم في حاجة ماسة إلى إجلائهم من مصراتة.
وأعرب هاسلام عن المشكلة بقوله: «الأمر أشبه بمعضلة أخلاقية. فكيف يمكننا أن نرتب العمال من حيث أولوية ترحيلهم؟».
وذكر شاهد عيان أنه قد كانت هناك أشكال من الخداع. فقد تظاهر بعض الليبيين بأنهم سيساعدون هؤلاء العمال في الانتقال على متن السفينة، ثم استولوا على الأموال التي دفعها العمال ولاذوا بالفرار، تاركين ضحاياهم في نفس صف الانتظار الطويل الذي تجمع أفراده حالة من عدم اليقين. وفي الوقت نفسه، خططت «إيونيان سبيريت» تفريغ حمولتها من 400 طن من البضائع، التي تضم إمدادات غذائية وطبية وصحية.
وقد أملت أن تتمكن من نقل العمال على متنها بعد ذلك مباشرة، ثم التحرك في اتجاه بنغازي، والتي منها، بعد فترة راحة قصيرة، سيتم نقلهم إلى مصر، الخطوة الثانية في طريق عودتهم إلى وطنهم.
كذلك، كانت سفن أخرى متجهة إلى مصراتة للمهمة نفسها، بما فيها سفينتا ركاب على الأقل وصلت بالقرب من الميناء قبل سفينة «إيونيان سبيريت»، يوم الخميس ولكن، بعد سماع أصوات وابل من طلقات النيران تضرب المنطقة، آثرت البقاء بعيدا عن الشاطئ. وبقيت السفينة «إيونيان سبيريت».
وبدأت رحلة السفينة في وقت متأخر من ليلة الأربعاء في بنغازي، حيث قد أمضى عمال رصيف الميناء يومهم في شحن البضائع.
وعلى متن السفينة، لم تكن هناك أي آثار لأسلحة أو ذخيرة حربية. كذلك، لم تقل السفينة المقاتلين. بل كان بها فقط مجموعة صغيرة جدا من الأفراد ضمت طاقم السفينة وعددا من العمال المختصين بتقديم المساعدات والخدمات الطبية ومجموعة من الصحافيين.
وقد عبرت السفينة الحدود ورست على شواطئ هادئة قرابة الساعة العاشرة والنصف مساء، وزادت سرعتها مع عبورها حاجز الأمواج.
يمكن أن تنتج الحرب مشاهد ملائمة وأخرى غير ملائمة. وقد كان هذا المشهد ملائما وغير ملائم في الوقت نفسه: سفينة ركاب زاهية اللون متجهة بقوة البخار نحو منطقة محاصرة وتضم طاقما صغيرا تم تجميعه في عجالة.
وخلال الليل وفي اليوم التالي، أبحرت السفينة ورست على جزء مرتفع قليلا عن الأرض، وظلت ماكينة الإسبريسو في حانة «بانوراما» تعمل لما بعد وقت العمل الرسمي، إلى أن أصيب طاقم السفينة بدوار البحر وعاد كثير من المسافرين إلى حجراتهم في حالة من الإعياء الشديد.
وبحلول ظهيرة يوم الخميس، مع اقتراب السفينة من مصراتة، تلقت تقارير عن معارك جديدة. وتساءل كل من طاقم السفينة والمسافرين عما إذا كان ربان السفينة سيرسي على الميناء في الفجر أم سينتظر حتى حلول الظلام أم سيعود أدراجه.
وقال هاسلام: «علينا إحضار هؤلاء الأفراد. لا أرغب في تحويل وجهتي».
وفي الساعة الرابعة عصرا، بات من الممكن بالكاد رؤية الميناء من على بعد، وقد ظهرت المستودعات والروافع مرتفعة من حيث تلتقي الصحراء الشاسعة الممتدة مع البحر. وتصاعدت الأدخنة منبعثة من داخل حدود الميناء في الهواء.
وفي تمام الساعة الرابعة والنصف، كان قد تم اتخاذ القرار. فقد اتجهت السفينة نحو الفتحة الصغيرة في حاجز الأمواج، حيث كان في انتظارها زورق سحب يسيطر عليه الثوار.
وصاح الربان قائلا: «ارحل يا قذافي!».
وبمجرد وصول القارب إلى رصيف الميناء، تم إدخال مجموعة من الزائرين داخل المدينة، الأمر الذي أعطى إشارات بأن المقاتلين الثوار يعرفون على الأقل أساسيات تنظيم دفاع. وعلى النقيض، ففي شرق ليبيا، لم يكن كثير من الثوار قد اتخذوا حتى مواقع دفاعية. وهنا، كانت المشاهد مختلفة. فقد استخدم الثوار معدات الحفر لإقامة الحواجز الترابية بجانب نقاط التفتيش. وفي كثير من الشوارع الجانبية، كانت هناك شاحنات نقل ثقيل وأكوام من التراب تبدو كمتاريس. كذلك، أقيمت حواجز منحدرة، لإبطاء وصول الدبابات والعربات المصفحة وتركها عرضة للتفجير.
16-04-2011
المصدر/ جريدة الشرق الأوسط