ومن خلال متابعة دقيقة لغالبية ما دار في فعاليات هذا الأسبوع، يخلص المرء إلى استنتاج واضح لا ريب فيه، وهو وجود معضلة ما في الوصل والتواصل بين التيارات العلمانية الإيطالية والمسلمين هناك، في حين كان المسلمون يوجهون الشكر لأساقفة الكنيسة الكاثوليكية، لمواقفهم الإيجابية من واحدة من أهم القضايا الخلافية المطروحة على ساحة النقاش الداخلي، قضية مسجد ميلانو الذي ترفض السلطات المحلية إصدار رخصة شرعيه له.
فقد أكدت مستشارة الشؤون الإدارية في مدينة ميلانو ليتسيا موراتني رفضها القاطع لبناء المسجد، واعتبرت أنه «لن يكون مكانا للصلاة، بل سيتحول إلى بؤرة لزعزعة الأمن العام، لذلك لا يمكن فتحه إلا في ظل قوانين محددة وواضحة تضمن أمن البلاد واستقرارها».
وفي تصريحات لاحقة لها أشارت إلى أن المسجد الكبير في روما تم إنشاؤه في عهد رئيس الوزراء السابق جوليو انديوتي، وبالاتفاق مع الحكومة المغربية «لكن العالم الإسلامي اليوم - على حد وصفها - غير مستقر وهناك تهديد بالإرهاب». وختمت بالإعراب عن رأيها بأنه «من الخطر أن يقدم المسلمون من جميع أنحاء إيطاليا إلى ميلانو» في الوقت الحالي.
هل القضية إذن أكبر وأعمق من مجرد بناء مسجد، بل وتنسحب على صبغ الإسلام والمسلمين في إيطاليا كما في عدد من الدول الأوروبية بالإرهاب؟
الثابت تاريخيا أن هناك ثلاث مناطق وصل إليها الإسلام والمسلمون في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) في إيطاليا، الأولى منطقة جزيرة صقلية، والثانية جزيرة سردينيا، والثالثة شبه جزيرة إيطاليا، وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، هاجر بعض المسلمين من أوروبا الشرقية، ثم أتت هجرات إسلامية من المناطق التي خضعت للاستعمار الإيطالي في أفريقيا، وهاجر إليها بعض العمال المسلمين من تونس، وقد وصل عدد المسلمين من أصل إيطالي كما ترجح بعض المصادر، إلى نحو مائة ألف أو يزيد إلى جانب المهاجرين من الدول الإسلامية، الذين بلغ تعدادهم، حسب الإحصائيات الإيطالية الرسمية الأخيرة أكثر من مليون مهاجر.
في هذا السياق، يصبح من الطبيعي أن يسعى هؤلاء إلى مباشرة شعائرهم الدينية، وإقامة صلواتهم وممارسة طقوسهم، والتي تكفلها شرائع حقوق الإنسان ومقتضيات حرية العبادة، وهنا يبقى الدستور الإيطالي هو صاحب الكلمة الفصل في أي خلافات تنشأ في هذا المضمار.. ماذا عن ذلك؟
الشاهد أن المادة الثامنة من دستور الجمهورية الإيطالية تنص على أن «جميع الأديان متساوية أمام القانون، وبإمكان العقائد الدينية غير الكاثوليكية أن تنظم شؤونها وفقا لقواعدها الخاصة بما لا يتعارض مع القانون الإيطالي، أما في ما يتعلق بعلاقاتها مع الدولة فتسير بموجب القانون استنادا إلى اتفاقات مع ممثلي كل منهما».
هل من عائق يقف وراء حالة الرفض لبناء مسجد ميلانو تتجاوز مواد الدستور الإيطالي؟
حكما، فإن «الإرهاب الإسلامي» لا يزال يمد جذوره هناك وحالة رفض الآخر قائمة، بل وهناك من يغذيها نافخا في النار غير مبال بأنها قد تمتد لتحرق أصابعه، عطفا على تلاعب السياسيين وفي مقدمتهم رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني، بهذه القضية من أجل تحقيق مكاسب انتخابية قصيرة النظر. في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، أطلقت الكاتبة الإيطالية أوريانا فالاتشي سيلا من الاتهامات والسباب في صورة أعمال أدبية، روايات ومقالات، تسخر فيها من المسلمين، وقد شبهتهم بـ«الفئران» من كثرة التناسل، كما سخرت من طريقتهم في الصلاة، خاصة أثناء السجود، ووصفت الأئمة بكونهم «المرشدين الروحيين للإرهاب».
ومن أسف شديد فإن عام 2008 شهد هدم بناية يتخذها المسلمون مسجدا في مدينة فيرونا بشمال إيطاليا، وتحويلها إلى ساحة أطلق عليها اسم ساحة «أوريانا فالاتشي»، ويومها قال أليسوندر أنتنولي، رئيس البلدية الذي ينتمي إلى رابطة الشمال اليمينية المتطرفة، للصحافيين «لم أكن أبدا مرتاحا لوجود هذا المسجد».
ومن جانبه، لم يكن برلسكوني أقل يمينية في مشهد مسجد ميلانو، فعلى هامش انتخابات المحليات التي جرت في شهر مايو (أيار) الماضي، حذر من أن انتخاب عمدة لميلانو من يسار الوسط المعارض، سيحولها إلى مدينة إسلامية يسيطر عليها من سماهم «الغجر الروم وغيرهم من المهاجرين».
وقد نشر رسالة على موقع حزبه الحاكم (حزب إيطاليا القيم)، جاء فيها «لا يمكن أن تتحول إيطاليا قبيل معرض 2015، إلى مدينة إسلامية، مدينة للغجر مليئة بخيام الروم، ومستنقع للأجانب، مدينة تعطي حق الانتخاب للمهاجرين في الانتخابات البلدية». وأضاف «لا أعتقد أن أهل ميلانو يعتبرون بناء مسجد جميل أولوية».
ولعل الشيء الإيجابي في مواجهة كلمات برلسكوني العنصرية، والتي تجاوزت المسلمين، إلى غيرهم من المهاجرين، كان الرد الذي وجهه اتحاد الهيئات والجاليات الإسلامية في إيطاليا، والذي اعتبر أن «للمسلمين في ميلانو حضورا فاعلا وتضامنيا». وقد أضاف الرد «لم نكن نريد الدخول في الجدل الانتخابي الذي يؤجج أجواء ميلانو، ونحن مقتنعون بأن شعبها يعرف جيدا على ماذا يراهن، ولا يحتاج إلى مشورة مجموعة، وضعت مبدأ اللاسياسة في دستورها التأسيسي».
والحقيقة الواقعة هي أن المسلمين في ميلانو، ومعظمهم من الأجانب، فضلا عن الميلانيين والإيطاليين، لم يعرفوا أعمالا إجرامية يمكن أن تنسب قصرا على المسلمين، أو على غيرهم، إلا في إطار الحدود الفسيولوجية الناجمة عن الظروف الاجتماعية، ولهذا فإن كلمات برلسكوني تأتي ناشزة، فضلا عن كونها غير منصفة ومهينة بالنسبة لجميع المسلمين في إيطاليا.
هل كان للكنيسة الرومانية الكاثوليكية من موقف ما في سياق هذا الجدل الدائر حول مسجد ميلانو؟..
أول وأهم المواقف صدر عن السلطة الدينية الكاثوليكية الأعلى في المدينة، جاء من خلال تعليقات الكاردينال ديوينجي تيتامنزي - كان مرشحا لشغل منصب بابا روما في الانتخابات البابوية الأخيرة 2005 - رئيس أساقفة مدينة ميلانو، والذي لفت إلى ضرورة تشييد جامع في المدينة، انطلاقا من مبدأ حرية ممارسة الطقوس الدينية، في إطار القوانين الإيطالية.
وفي معرض رده على سؤال في الصدد نفسه، أشار تيتامنزي إلى اضطرار المسلمين لاستئجار أماكن مثل الخيام لأداء صلاة التراويح، مما يشكل مؤشرا على استمرار أزمة دور عبادة المسلمين في المدينة، واتهم الساسة الإيطاليين بتهويل موضوع تشييد المسجد لجعله «قضية مثيرة للنقاش». وأضاف «تأجيل حل المسألة يفضي إلى تعقيدها وبالتالي إلى تصعيد التوتر، وإنه من الضروري تسوية المشكلة على نحو عاجل».
المشهد الثاني جرت وقائعه في حاضرة الفاتيكان في الأسبوع الأخير من الشهر الفائت، فقد لفت الأساقفة الإيطاليون إلى أن المؤمنين يصوتون في الانتخابات السياسية الإدارية وفقا لما يمليه عليهم ضميرهم من دون إشراك المجتمع المسيحي بأسره، ويسعون إلى تمثيل الصالح العام للإنسان في أي تيار كانوا. ورأى الأمين العام لمجلس الأساقفة المونسنيور «ماريانو كروتشاتا» أنه لا ينبغي للمجتمع المسيحي التحيز أبدا بشكل أو بآخر وفق تعبيره الذي فهم منه أنه كان ردا على تصريحات برلسكوني.
وفي ما يخص مسجد ميلانو كان كروتشاتا يتحدث رسميا باسم الكنيسة قائلا «إن موقفها يتمثل في الدفاع عن حق الحرية الدينية، وكذلك في مجال توفير أماكن للعبادة لممارسة هذا الحق الأساسي». وأشار على هامش أعمال الاجتماع العام لمجلس الأساقفة في الفاتيكان إلى أن «المسجد فضلا عن كونه مكانا للصلاة، يمثل أيضا مركزا ثقافيا ومحلا للقاء والتجمع، لذلك ففي تنفيذه علينا أن نأخذ بعين الاعتبار متطلبات الحياة الاجتماعية في مجتمعنا، على النحو المنصوص عليه في الدستور».
والشاهد أن موقف أساقفة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية قد ذهب في الأيام الأخيرة التي ازدادت فيها الدعوات العنصرية تجاه المهاجرين، الذين أجبرتهم ظروف الحرب والقلاقل الأمنية والاضطرابات السياسية، في بعض من دول شمال القارة الأفريقية، تجاه مواقف تقدمية، فقد رأى على سبيل المثال رئيس مجلس الأساقفة الإيطاليين الكاردينال أنغلو بانياسكو أن «علينا أن نزرع جذور الثقة بدلا من الخوف بشأن المهاجرين غير الشرعيين»، لافتا إلى زيارته إلى جزيرة لامبيدوزا، حيث وصف ما يحصل هناك بأنه مثال رائع لإيطاليا، في إشارة إلى كرم سكان الجزيرة في إقليم صقلية، مع تواصل تدفق أعداد كبيرة من مهاجري الشمال الأفريقي.
ومما لا شك فيه أن تلك المواقف من الكنيسة الكاثوليكية قد بسطت جوا من الود، ووفرت مساحة من التسامح، الأمر الذي دعا اتحاد الهيئات والجاليات الإسلامية في إيطاليا، لأن يوجه رسالة شكر إلى الكاردينال بانياسكو جاء فيها «إننا ننظر بعين الارتياح والامتنان الهائلين إلى الموقف الذي اتخذه أعضاء باروزن في مجلس الأساقفة الإيطاليين بشأن مسألة توفير أماكن العبادة للمسلمين». وتضيف الرسالة أن «التضامن الأخوي من قبل أغلبية المؤمنين المسيحيين، والذي لمسناه بشكل مباشر في ألاف المناسبات التي التقيناهم فيها، وبحثنا معهم في الأمور الدينية، يجد تأكيدا قويا وراسخا في التصريحات الأخيرة لأسقف بلدة ماتزارا ديل فالو المونسنيور دومينيكو موغافيرو، والأمين العام لمجلس الأساقفة الإيطاليين المونسنيور ماريانو كروتشاتا».
وخلص اتحاد الهيئات والجاليات الإسلامية إلى الإعراب عن «الأمل في أن تستمر مسيرة المحبة هذه»، مؤكدا أنه «من جانبنا نعبر عن رغبتنا الراسخة في مواصلة كل الجهود الضرورية والممكنة لكي لا تتوقف هذه المسيرة أبدا، وتؤتي ثمارا مباركة في مجال العلاقة بين المسيحيين والمسلمين والتعايش السلمي في البلاد» على حد تعبيره.
وفي الوقت الذي تنفتح فيه الكنيسة على الآخر نجد مواقف رجعية من قبل مسؤولين علمانيين في إيطاليا، فهذا رئيس بلدية روما «جاني أليمانو»، في كلمته أثناء الأسبوع الإسلامي والتي جاءت تحت عنوان «الدين والديمقراطية»، يلغز ويلمز عبر التلاعب بالكلمات فيقول «إنه في كل هوية دينية وثقافية هناك أناس يعملون من أجل الخير وآخرون لأجل الشر، لكن إمكانية التمتع بالحرية الدينية حقيقة مهمة، ويجب أن تستخدم لمقاومة كل أشكال التطرف والتعصب».
أما وزير الدفاع الإيطالي «إنياتسيو لاروسا»، فأشار إلى أن بلاده تقبل التعددية العرقية، وليس الثقافية، ورد على تصريحات الكاردينال تيتامنزي بالقول «من المهم بالنسبة للكنيسة أن تؤكد دائما على أهمية احترام القوانين المتعلقة بأماكن العبادة، لكن ما يخيف في الأمور أن دور العبادة الإسلامية في كثير من الأحيان تستخدم كتغطية لأعمال أخرى عدوانية وبعيدة عن الممارسات الدينية الاعتيادية والمشكلة تكمن في هذه النقطة».
الإكليروس (رجال الدين المسيحي) يوافقون.. والعلمانيون يرفضون.. هل هذا هو حال العلمانية الجافة، علمانية «الأنوار التي تعمي»، التي أشار إليها الفيلسوف الفرنسي الثائر ريجيس دوبريه في كتابه الأخير.. أم أن ذلك، ومن أسف، حصاد لأخطاء وقعنا فيها في العقود الأخيرة، وهناك من عرف كيف يعزف على أوتارها أنغاما من الكراهية والعنصرية ورفض الآخر؟
إميل أمين
كاتب مصري
14-06-2011
المصدر/ جريدة الشرق الاوسط