بدأ ذلك الشغف في القرن التاسع عشر، وامتد لسنوات تقارب المائة، منذ عودة الإمبراطور الفرنسي نابليون من حملته على مصر التي استمرت حتى 1801، لغاية إقامة الفنان الفرنسي ماتيس في شمال أفريقيا عام 1906. إنها السنوات الذهبية لسيل من اللوحات التي ما زالت تمتلك جاذبيتها الأخاذة. ورغم الولع الغربي بتلك الأعمال، فإن الشرقيين لم يرتاحوا لها تماما، ووجدوا فيها انعكاسا للعقلية الكولونيالية التي تنتهك الخصوصيات المحلية وتستبيح نساء البلاد المستعمرة، وتصورهن في أوضاع خليعة مثل جاريات مملوكات، في سبيل إشباع المخيلة الأوروبية الباحثة عن مذاق إكزوتيكي جديد.
كانت الرسوم الأولى التي عاد بها الفنانون المشاركون في حملة مصر فاتحة لهوس فرنسي عام لاستكشاف تلك البلاد والتعرف على طبيعتها وعادات أهلها، وبالأخص آثارها الفرعونية التي ما زالت تحرض المؤلفين على نشر المجلدات المصورة الكثيرة التي تغرق المكتبات في باريس ولندن وبرلين حتى يومنا هذا. أليس فيكتور هوغو (1802 ـ 1885) هو من أوائل من انتبهوا إلى تلك الظاهرة وكتب يقول: إن الفرنسيين كانوا، في عصر لويس الرابع عشر، مولعين بالحضارة اليونانية، ثم أصبحوا مولعين بالشرق؟ إن دليل المعرض لا ينكر أن من غير الممكن الفصل بين هذا التيار الفني والتوسع الكولونيالي نحو أفريقيا الشمالية، بعد تضعضع الإمبراطورية العثمانية وتغلغل مراكز القوى الأوروبية إلى جنوب المتوسط وإلى الشرق الأوسط. لقد فتح التوسع الباب أمام الفنانين والرحالة للتوجه نحو أصقاع كانت، حتى ذلك الوقت، متعذرة عليهم. وقد أصاب اللقاء بالشرق ما يشبه الصدمة التي منحت الرسامين منظورا مختلفا وكشفت أمام أنظارهم ألوانا وملامح جديدة.
في رحلته إلى المغرب عام 1832، كان الفنان يوجين ديلاكروا (1798 ـ 1863) يبحث في الطبيعة الشرقية المغايرة عن أصداء لرغبته العميقة في التجديد. لقد كان الشرق، بالنسبة إليه، مكانا تأخذ فيه الحواس مداها. كما كانت آثاره القديمة، التي كانت مرجعا عاما لكل الرسامين من ذوي الثقافة الكلاسيكية، تنهض من رفاتها أمام عينيه وترتدي ألوان الحياة النابضة. إن الرسام واحد من الذين حددوا الخطوط الأساسية لمخيلة سار عليها كثيرون من مواطنيه بعده، في ذلك القرن، أمثال جان أوغست دومينيك أنغر (1780 ـ 1867) والرسام والنحات جان ليون جيروم (1824 ـ 1904) اللذين لقيت رسومهما عن أجواء الحريم رواجا كبيرا، لأنها كانت تلبي الهواجس والتهويمات الغربية عن حسية الشرق ووهج الصحراء وترف المنازل والقصور وروعة الثياب والفضيات والبخور وعوالم تجار السجاد والسادة والعبيد. لقد أصبح ركوب البحر إلى الضفة الجنوبية للمتوسط هو الطريق الذي يحلم به كل فنان ومغامر وباحث عن الغرائب. وقد امتدت إقامة بعض الفنانين لسنوات، الأمر الذي وضعهم في مواجهة مباشرة مع حقائق الحياة اليومية الحزينة لسكان مستعبدين. وهكذا ظهرت، مقابل الرسوم الناجحة والمطلوبة، في أوروبا، للشرق الخامل والسعيد نظرة ثانية أكثر واقعية، ذات بعد أثنوغرافي، يمنح اهتماما أكبر للآخر المغاير ولمشاغله الحقيقية.
استهوى الشرق كل الأسماء الكبيرة من فناني تلك الحقبة: رينوار، ماتيس، كادينسكي وبول كلي فشدوا الرحال إليه ورسموا المدن بمبانيها البيضاء والنساء ذوات البشرة الداكنة والرجال ذوي العمائم والقباب والأقواس المنقوشة بالكتابات. لكن كلا منهم نظر إلى الشرق من منظار ثقافته الخاصة ودرجة وعيه وموهبته في استنباط رؤى غير شائعة ولا مقلدة. إنه هذا التنوع الذي يعكسه 120 عملا موزعا أمام أنظار الزوار في مركز «فياي شاريتيه» في مرسيليا، المدينة المختارة عاصمة للثقافة الأوروبية هذا العام. وجاءت الأعمال المعروضة من متاحف كثيرة ومن مجموعات خاصة ومن مؤسسات فنية عالمية لتقدم رؤية شاملة لذلك التيار التشكيلي، ليس في فرنسا فحسب، بل في الدول المجاورة. وبالإضافة إلى الأعمال الخالدة للرسامين الفرنسيين الكبار، هناك أعمال للبريطانيين جون فريدريك لويس ولورنس ألما تاديما، والألمان كارل فريدريش ويلهلم موللر وبويرنفيند، والبلجيكيين جان فرانسوا بورتايل وإيفنبويل، والإسبانيين آرماندو فيلغا وجواكبن سورولا، والإيطاليين فابي وسيموني، وهناك أيضا لوحات لفنان «مستشرق» تركي درس في باريس هو عثمان حمدي بيه.
28/07/2011
المصدر/ جريدة الشرق الأوسط