الإجراءات الإدارية الصّارمة التي تتّبعها القنصليات الفرنسية لمنح تأشيرات السفر باتت تطال أيضا ضيوف هذا البلد من أهل الفن والثقافة. فدعوة فنانين أجانب للمشاركة في مهرجانات وتظاهرات فنية أصبحت مشكلة عويصة. الظاهرة لا تخص كل الأجانب فالمعنيون بالأمر هم بالأخص فنانون من أفريقيا الفرانكوفونية وكذلك المشرق العربي حيث تصل نسبة رفض تأشيرات السفر إلى 30 في المائة بحسب تقديرات جمعية «زون فرانش» التي تساعد هؤلاء على إتمام إجراءات السفر. أما وزارة الهجرة الفرنسية فقد أعلنت في تقريرها الأخير بأنها تبنت سياسة جديدة لتحديد تنقلات الأجانب الناشطين في الحقل الفني بتخفيض أعداد التأشيرات. فمن 340 تأشيرة منحت عام 2005 انخفض العدد إلى أقل من 160 عام 2010، ونحو 89 عام 2011. كما أنها رفضت 12 في المائة من الطلبات التي تقّدم بها فنانون قادمون من القارة السمراء للحصول على تأشيرة سفر لعام 2010. كما منعت شرطة الحدود 298 فنانا أفريقيا وصلوا المطارات الفرنسية من دخول البلاد بحجّة عدم استكمال إجراءات الإقامة. آخر مشكلة تحدثت عنها الصحافة عاشها مغني سنيغالي شاب يدعى «عليو بدارا ديالوا»، اضطر لإلغاء عدة حفلات بعد أن كان منتظرا في مدينة ليل، في شمال فرنسا، في جولة تقوده إلى عواصم أوروبية أخرى. وكذا فرقة من جمهورية بوركينا فاسو تحمل اسم «فرقة أوغست بيان فونو» لم تتمكن من إحياء الحفل الراقص المتوقع في مدينة بوردو هذا الصيف بعد أن فشل أعضاء الفرقة في الحصول على تأشيرات السفر في الوقت اللازم. مدير الفرقة أوغست ويداغو تعجب من موقف القنصلية الفرنسية: «عرضنا يتم في إطار مشروع ثقافي مشترك ساهمت فيه ماديا خمس مؤسسات فرنسية، الأمر في غاية الجدية وليس لعبة. فنحن ننشط في هذا المجال منذ أكثر من عشر سنوات وسافرنا لكل بقاع العالم: ألمانيا، أميركا، بريطانيا ولم نتعرض من قبل لمثل هذا الموقف السخيف. نحن فنانون والتنقل لتقديم نشاطنا جزء من عملنا». نفس الموقف تعرض له مواطنهم الفنان التشكيلي «بابا سادوغو» الذي تلقى خبر رفض التأشيرة في نفس اليوم المقرر للسفر. موقع «شارع 89» الإخباري الذي نشر الخبر سجل استهجان السلطات الثقافية لمنطقة الكالفادوس التي كانت تنتظر الفنان لتنشيط عدة ورش للفن التشكيلي.
إهانة وخراب بيوت..
الوضعية استفحلت حتى أصبحت تشكل الشغل الشاغل لمنظمي مهرجانات «موسيقى العالم»التي يشارك فيها بكثرة الفنانون الأجانب. معظمهم أصبح يخشى الإفلاس بانقطاع مهرجانات موسيقى العالم إذا استمرت وزارة الهجرة في رفض تأشيرات المبدعين. يقول فيليب كونراث منظم مهرجان أفريك كولور: «كل عام تظهر تعقيدات جديدة لتطول قائمة الطلبات التي لا تنتهي: دعوات المنظمين، تصاريح العمل، أوراق التأمين، عقود العمل، كشف طبي، وثائق رسمية، مبلغ مالي في البنك (1600 يورو)، إقامة سكن أو حجز الفندق، تذاكر الطائرة إلخ... كل هذا نتحمل تعبه ومصاريفه. لكننا للأسف لا نضمن في الآخر حصول ضيوفنا على التأشيرة».
أما برتران دوبون المشرف على مهرجان «نو بوردر» المنظم بمدينة «برست» فهو يصف وضعيات غريبة يتعرض لها وهو يحاول تحضير ملفات تأشيرات الفنانين الأفارقة «تخيّلوا وأنتم تستعدون لدعوة عشرين فنانًا ماليا، أن يطلب منكم الحضور إلى قنصلية باماكو لبضع ساعات من أجل تعبئة بيانات في كل واحد منها أكثر من خمسين سؤالا، بعضها يستعصي على المعنيين بالأمر أنفسهم كتاريخ ميلاد والديهم أو تاريخ آخر تلقيح ضد الحصبة».
المعنيون بهذا الرفض هم مغنون وكتاب وفنانون تشكيليون وراقصون وعازفون من فضاءات فنية مختلفة، عيبهم الوحيد أنهم من دول فقيرة يكثر فيها المرشحون للهجرة السّرية. كريستين سامبا مديرة منظمة «زون فرانش» التي تحارب هذه الظاهرة تضيف: «المشكلة أن رفض القنصليات الفرنسية منح التأشيرات غير صريح وغير رسمي، وتبريرها الوحيد هو أن الملفات تنقصها بعض الأوراق، رغم أن هذه الأوراق لم تطلب منا أصلا».
الحاصل هو أن الفنان الذي تتم دعوته للمشاركة في مهرجانات فنية يبقى محط شكوك وزارة الهجرة الفرنسية التي ترى فيه مرشحا للهجرة السرية انتحل هوية فنان وفرصة المشاركة في نشاطات فنية لدخول فرنسا والإقامة فيها بطريقة غير شرعية. نسبة الشك تبلغ أقصاها حين تتوفر في هذا الفنان مواصفات معينة كأن يكون شابا وعازبا وقليل التنقل وحاملا لجنسيات دول محددة كمالي والنيجر والكونغو والسنغال ولكن أيضا من أميركا اللاتينية والعراق ومصر والمغرب.
يحدث أيضا أن يطال الرفض شخصيات فنية معروفة لا يمكن أن تشكل أي خطر، كالرسام الكونغولي «شيري سامبا» الذي دعاه المصمم «لوي فيتون» للمشاركة في مشروع فني هذا الصيف لكنه لم يتمكن من الحضور لعدم حصوله على تأشيرة السفر. وكذلك الحال بالنسبة للكاتب والإطار السابق في وزارة التربية السنغالي الجنسية «‹فاضل ديا» الذي جاوز السبعين والذي دعي للمشاركة في ندوة حول الكتّاب الأفارقة. رفض التأشيرة قد يتم أحيانا في ظروف فيها الكثير من المذلة والإهانة للفنانين الذين يمتازون عن غيرهم بأحاسيس مرهفة. تجربة مرة عاشتها الممثلتان المغربيتان صوفية عصامي وسارة بتويتي بطلتا فيلم «الخشبة» اللتان مُنعتا من دخول فرنسا رغم الدعوة التي وجهت إليهما من لجنة مهرجان كان السينمائي.
حالات شاذة.. لكنها قليلة
التنديد بالظاهرة وعواقبها على سمعة فرنسا كوجهة فنية عالمية لا ينفي وجود حالات شاذة. «موديست كومباوور» مدير مسرح لافراترنيتي بمدينة واغادوغو بجمهورية بوركينا فاسو يعترف بوجود مشكلة حقيقية لبعض العناصر التي قد تتخذ من النشاط الفني ذريعة للهجرة لكنه يؤكد أن هؤلاء ليسوا إلا قلة قليلة وبأنهم ليسوا بفنانين حقيقيين، بل إنه لا علاقة تربطهم بالفن أصلا. فهم أشخاص يحتالون على القوانين وعلى وزارة الثقافة للاستفادة من الوضع الإداري للفنانين ومن ثم محاولة السفر للخارج دون عودة. وقد كانت الصحافة الفرنسية نقلت عام 2004 حادثة إلقاء القبض على المغني «بابا ونبا» الملقب بـ«الألفيز الأفريقي» بتهمة تواطئه في استقدام 300 مهاجر سري من الكونغو إلى فرنسا وبلجيكا تحت غطاء النشاط الفني بمقابل مالي يصل إلى 5000 يورو للشخص الواحد.
أمثلة كهذه تبقى قليلة والدليل شهادة «آلان فيبر» منتج مهرجان «لي زوريونتال» أو «شرقيات» الذي أكد لميكرفون إذاعة «فرانس كولتور» أنه لم يشهد على مدى عشر سنوات سوى أربع حالات اختفاء لفنانين أجانب من بين 2000 تمت دعوتهم لحضور مهرجانه في فرنسا. أما منظمو مهرجان «أفريك كولور» الذي يشارك فيه سنويا ما يقارب 200 فنان أفريقي فلم يسجلوا إلا حالة اختفاء واحدة منذ بدأ تنظيمه قبل خمس عشرة سنة.
العالم يضيق على الفنانين
على أن فرنسا ليست الاستثناء الوحيد في أوروبا، فبريطانيا هي الأخرى شددت من إجراءات استقبال الفنانين الأجانب منذ 2008، بل إنها أصبحت أكثر صرامة من فرنسا. حيث إنها تطالب ضيوفها من أهل الفن بملء عدة شروط وصفتها صحيفة «نيويورك تايمز» التي كتبت عن الموضوع بـ«التعجيزية». تبدأً الخطوات بتسليم مصالح القنصلية جواز السفر طيلة الإجراءات التي قد تدوم أسابيع إلى المبالغ المهمة التي تدفعها المؤسسات المُضيفة (نحو 1000 جنيه استرليني عن الفنان الواحد) إلى غاية قائمة الضمانات المطلوبة وتعهد الفنانين الضيوف بعدم التعاقد مع أي منتج طيلة الإقامة.
مصالح الهجرة البريطانية تعمل أيضا بنظام «سلم نقاط» حسب جنسيات الفنانين، تقيم بموجبه احتمال وجود مشروع هجرة سرية مبيتة. عدة فنانين أجانب وقعوا ضحية هذه الإجراءات المتشددة. المخرج الإيراني المعروف عباس كياروستامي الحائز على السعفة الذهبية في مهرجان كان 1997 عن فيلمه الرائع «طعم الكرز» مُنع من دخول بريطانيا لتقديم عرض مسرحي جديد. وكان هذا الأخير قد عبر عن استغرابه في عدة تصريحات قائلا: «أخذوا مني بصماتي مرتين ووافيتهم بكل ما كان مطلوبا في ملف التأشيرة، لكن جواب القنصلية كان سلبيا بحجة أن لا أحد يعرفني في بريطانيا». مثل هذه الإجراءات الصّارمة تنطبق حتى على الرعايا الأجانب الذين لا يحتاجون لتأشيرة دخول البلد. وهو ما اكتشفه فنانون أجانب كالمغنية الكندية أليسون كروو التي عادت من المطار لأنها لم توفر لمصالح شرطة الحدود وثيقة عمل رسمية. وهو أيضا حال عازفة الكمّان الأميركية كريستين أوستلينغ التي قصدت بريطانيا بدعوة من مؤسسة فنية معروفة لكنها وجدت نفسها محجوزة في مطار هيثرو ثماني ساعات وسط سيل من الأسئلة قبل أن ترافقها شرطة الحدود إلى الطائرة باتجاه مدينة واشنطن التي أتت منها. شخصيات معروفة كمغني الروك الأميركي بروس سبرنغستين مثلا احتاج إلى ترخيص خاص لإحياء حفلاته ببريطانيا وكاد أن يلغيها لولا حصوله في آخر لحظة على الورقة الثمينة.
ألمانيا هي الأخرى شدّدت من إجراءات تنقل الفنانين الأجانب على أراضيها وخاصة الأتراك منهم. وكانت يومية «تاج زيوتنغ» البرلينية قد كشفت عن مفاوضات حثيثة بين البلدين وضعت فيها ألمانيا شروطا غير متوقعة كتأمين تركيا لحدودها مع العراق سوريا.
وحتى الولايات المتحدة الأميركية، بدأت هي الأخرى تصعب من إجراءات تنقل فنانين من دول معينة كالكونغو وغينيا وخاصة من جامايكا التي نشرت فيها مجلة «جامايكا أوبسرفر» في ديسمبر (كانون الأول) 2011 قائمة لعشرة مغنيين رفضت طلبات تأشيراتهم عدة مرات. وضعية صعبة بالنسبة لهؤلاء المبدعين الذين يعيشون من الأجور التي يتقاضونها في جولاتهم الفنية في الخارج وهو ما ألهم أحد هؤلاء وهو مغني الريغي «جاه كيور» بأغنية جميلة بعنوان «ساف يور سلف» التي يقول مطلعها «قد توصد الأبواب لتحمي نفسك منا، لكنك لن تمنع فننا وأحاسيسنا من الوصول لقلوب العالم».
المنظمات التي تحارب هذه الوضعية كجمعية «زون فرانش» الفرنسية تؤكد أن القانون نظريا يكفل للفنانين حقهم في التنقل.
وفرنسا كغيرها من الدول الأوروبية المنتمية لفضاء «شنغن» وقعت كلها على اتفاقيات اليونيسكو التي تنص على ضرورة احترام وضمان حرية التنقل للناشطين في المجال الإبداعي الفني. لكن الواقع هو أن سياسات الهجرة المتشددة حولت حدود أوروبا إلى سور فولاذي ضخم مغلق في وجه التنوع الثقافي حتى باتت هذه الدول فضاء ضيّقا أصبح فيه كل أجنبي راغب في تخطي الحدود متهما بالهجرة السّرية دون تمييز بين الشخص العادي والمبدع الذي لا يمكن أن يستبدل حريته وفنّه بأموال الدنيا.
23-01-2012
المصدر/ جريدة الشرق الأوسط