قبل 80 عاما، أنشدت المغنية الأميركية السمراء، جوزفين بيكر، أغنيتها الشهيرة: «لدي حُبّان.. بلدي وباريس.. وبينهما يتأرجح قلبي بالسرور دائما». واليوم، يقام في المتحف الفرنسي للهجرة معرض يستعير عنوانه من تلك الأغنية «لدي حبان»، ويستمر حتى أواخر يونيو (حزيران) المقبل.
يقدم المعرض أعمالا جرى اقتناؤها حديثا لضمها إلى مجموعته الخاصة، ولم تُعرض من قبل. وهناك أعمال مستعارة من متاحف عالمية لفنانين معاصرين من الشرق والغرب. وهي لوحات ومنحوتات وتجهيزات تكشف نظرة كل واحد منهم لمفهوم الرحيل والهجرة. وبحسب المشرفين على المعرض، فإن الهجرة، سواء أكانت مؤقتة أو دائمة، ليست مجرد عبور، بل تصيب المهاجر بأشكال من التحولات. وهناك من الفنانين من يتجاوز المفهوم البسيط لتغيير البقعة الجغرافية، ويعتبر التنقل أسلوب حياة وإبداعا وتجددا.
وفي عصرنا الحالي، أكثر من أي زمن مضى، صار الفنانون مواطنين في القرية الكونية، يعبرون من ثقافتهم الأصلية إلى مدن باتت مراكز وعواصم ثقافية عالمية، مثل باريس ونيويورك وبرلين ولندن ودلهي وبيروت. ويقول لنا دليل المعرض إن نتاجات هؤلاء الفنانين تعكس، في الغالب، تلك الهويات المتلاقية أو المتقاطعة، وتشهد على التوتر الذي يسببه الاقتلاع من الجذور، هذا الاقتلاع الذي يتحول إلى مكان يشحذ طاقة الإبداع.
المحافظون الثلاثة للمعرض؛ الصيني هو هانرو، والفرنسيتان إيفلين جوانو وإيزابيل رونار، اختاروا 106 أعمال تشكيلية، ورسموا خارطة تقديمها للجمهور، وفق 5 مواضيع رئيسية؛ الأول يشمل كل ما يتعلق بالمغادرة والسفر والتجوال، والثاني ينضوي تحت عنوان «بين الحلم والضرورة»، والثالث عن الحدود وما يتبعها من مشكلات عبور وتفتيش، والرابع عن العيش المشترك، وأخيرا كيفية إعادة تشكيل العالم الداخلي للفنان المهاجر.
منذ الخطوة الأولى داخل المعرض يستحوذ على الزائر شعور بأنه إزاء أعمال غير عادية، ومن الصعب العثور عليها في المتاحف العامة. فهنا يجتمع فنانون من أقصى الشرق حتى الإسكيمو. وبين المشاركين فنانون عرب أو من أصول عربية ساقتهم أقدارهم إلى مغتربات بعيدة، أمثال الفلسطينيين منى حاطوم، المقيمة في بريطانيا، وتيسير البطنيجي وجمال طاطاح المقيمين في فرنسا، والجزائريين كريم كال وقادر عطية ومحمد بورويسة العاملين في فرنسا أيضا، وأيضا المغربية بشرى الخليلي ومواطنها المصور مالك نجمي.
وفضلا عن اللوحات والصور الفوتوغرافية وتلك الأعمال المركبة من تجميع حاجيات شتى، التي تسمى تجهيزات، يتوقف الزائر عند عمل مصور بالفيديو يحمل عنوان «زون مي»، اشترك في إنجازه الفنانان سيدي العربي الشرقاوي وجيل ديلماس، والأول راقص ومصمم رقصات مغربي الأصل نشأ في بلجيكا، والثاني مصور تلفزيوني فرنسي. وهما يعملان معا، ويترددان على متحف الهجرة، لكي تكون أعمالهما المشتركة بمثابة مقياس يجس نبض المهاجرين وقضايا الحدود والهوية والتعدد الثقافي ومشكلات الانتماء.
لقد جاء الشرقاوي بـ21 راقصا من دول كثيرة؛ إسبانيا، آيسلندا، بنغلاديش، بلجيكا، الهند، السويد، بريطانيا وغيرها، وأقام لهم هيكلا رمزيا داخل متحف الهجرة يدعى «زون مي»، لكي يكون بمثابة المنزل الخالي من النوافذ والأبواب، لكنه ملغوم بالكاميرات والشاشات. إن البيت غريب وغير مريح، وكل ما يدور داخله هو مادة معروضة على زوار المتحف. والنتيجة هي أن الراقصين يحاولون التعايش بانسجام مع حدود هذا الهيكل الجامع، ويتبادلون الحركات والخطوات المتناسقة التي تجعلهم جزءا من عرض مسرحي موحد، لكن كلا منهم يحاول، في الوقت نفسه، إيجاد فسحة حميمة تخصه وحده، ولا تنقلها الكاميرا إلى الخارج. أليست الهجرة هي هذا الانتقال غير المريح من مكان أليف إلى آخر غريب يضطر فيه المرء للتعامل مع سحنات ولغات وطباع مغايرة؟ إن حدود هذا العمل الفريد تمتد إلى أبعد من «زون مي»، ذلك أن المصور ذهب إلى البيوت والشقق الحقيقية التي نشأ الراقصون فيها وسكنوها، وحاول نقل العلاقة بين الجسد والفضاء الذي يقيم فيه.
يستوقف الزائر، أيضا، العمل الذي تقدمه منى حاطوم، وعنوانه «بخارى». وهو عبارة عن سجادة أفغانية تشبه تلك القطع من السجاد التي كان يجمعها والدها حين كانت العائلة تسكن في فلسطين. إنها سجادة ذات ألوان نبيذية، تعتقت من كثرة ما احتكت بها الأقدام، وتمزقت بعض خيوطها، بحيث ارتسمت عليها خارطة العالم. وهناك أعمال الفنانة الإيرانية المولد، غزال. لقد هاجرت إلى فرنسا منذ ربع قرن، وراحت تشتغل على فكرة التيه في العالم، والبحث عن انتماء مفتقد هو بمثابة البحث الدائم عن الذات. وبين عامي 2003 و2008 راحت غزال تصور نفسها بالفيديو في سلسلة من البورتريهات الذاتية التي تبدو فيها وهي ترتدي التشادور، الذي تتحول أشكاله مع مرور الصور والسنوات.
أما المصور بورويسة فقد حمل الكاميرا إلى ضواحي باريس، وراح يلتقط وجوه المهاجرين وتعبيراتهم الخاصة. إنها صور فوتوغرافية لا تقترب من الريبورتاج الصحافي، بقدر ما تحاول سبر الوجوه لاقتناص ما توحي به من تشابه مع لوحات خلدها تاريخ الفن. وهناك العمل المدهش لقادر عطية، وعنوانه «ماكينة الأحلام». وفيه نرى شابة ترتدي ثيابا رياضية تحمل علامة «حلال» وتغطي شعرها بمنديل، تقف أمام ماكينة للتوزيع الآلي للبضائع، وترى ما بداخلها من أشياء؛ واقٍ ذكري أو أحمر شفاه أو بطاقة ائتمان أو جهاز عرس. وكلها أمور تحلم الشابة المهاجرة بها وتخشى أن تكون مخالفة لعقيدتها. ويوضح الفنان أنه أنجز هذا العمل حين كانت البضائع الحلال نادرة في الأسواق الفرنسية، وقبل أن يصبح لكل سلعة ما يوازيها من مرادف يحترم الشريعة، من اللحوم المذبوحة وحتى العقاقير الطبية.
يبذل القائمون على متحف الهجرة جهدا ملحوظا لتقديم كل ما يثير المخيلة ويتوغل عميقا في النفس البشرية، بل إن المبنى الذي يشغله في الدائرة 12 من باريس، على مشارف غابة فنسان، له حكايته الخاصة. فقد تم تشييده عام 1931 بمناسبة إقامة المعرض الكولونيالي، ثم أصبح متحفا للفنون الأفريقية قبل أن يخصص كمقر لمتحف الهجرة الجديد.
10-02-2012
المصدر/ جريدة الشرق الأوسط
يقدم المعرض أعمالا جرى اقتناؤها حديثا لضمها إلى مجموعته الخاصة، ولم تُعرض من قبل. وهناك أعمال مستعارة من متاحف عالمية لفنانين معاصرين من الشرق والغرب. وهي لوحات ومنحوتات وتجهيزات تكشف نظرة كل واحد منهم لمفهوم الرحيل والهجرة. وبحسب المشرفين على المعرض، فإن الهجرة، سواء أكانت مؤقتة أو دائمة، ليست مجرد عبور، بل تصيب المهاجر بأشكال من التحولات. وهناك من الفنانين من يتجاوز المفهوم البسيط لتغيير البقعة الجغرافية، ويعتبر التنقل أسلوب حياة وإبداعا وتجددا.
وفي عصرنا الحالي، أكثر من أي زمن مضى، صار الفنانون مواطنين في القرية الكونية، يعبرون من ثقافتهم الأصلية إلى مدن باتت مراكز وعواصم ثقافية عالمية، مثل باريس ونيويورك وبرلين ولندن ودلهي وبيروت. ويقول لنا دليل المعرض إن نتاجات هؤلاء الفنانين تعكس، في الغالب، تلك الهويات المتلاقية أو المتقاطعة، وتشهد على التوتر الذي يسببه الاقتلاع من الجذور، هذا الاقتلاع الذي يتحول إلى مكان يشحذ طاقة الإبداع.
المحافظون الثلاثة للمعرض؛ الصيني هو هانرو، والفرنسيتان إيفلين جوانو وإيزابيل رونار، اختاروا 106 أعمال تشكيلية، ورسموا خارطة تقديمها للجمهور، وفق 5 مواضيع رئيسية؛ الأول يشمل كل ما يتعلق بالمغادرة والسفر والتجوال، والثاني ينضوي تحت عنوان «بين الحلم والضرورة»، والثالث عن الحدود وما يتبعها من مشكلات عبور وتفتيش، والرابع عن العيش المشترك، وأخيرا كيفية إعادة تشكيل العالم الداخلي للفنان المهاجر.
منذ الخطوة الأولى داخل المعرض يستحوذ على الزائر شعور بأنه إزاء أعمال غير عادية، ومن الصعب العثور عليها في المتاحف العامة. فهنا يجتمع فنانون من أقصى الشرق حتى الإسكيمو. وبين المشاركين فنانون عرب أو من أصول عربية ساقتهم أقدارهم إلى مغتربات بعيدة، أمثال الفلسطينيين منى حاطوم، المقيمة في بريطانيا، وتيسير البطنيجي وجمال طاطاح المقيمين في فرنسا، والجزائريين كريم كال وقادر عطية ومحمد بورويسة العاملين في فرنسا أيضا، وأيضا المغربية بشرى الخليلي ومواطنها المصور مالك نجمي.
وفضلا عن اللوحات والصور الفوتوغرافية وتلك الأعمال المركبة من تجميع حاجيات شتى، التي تسمى تجهيزات، يتوقف الزائر عند عمل مصور بالفيديو يحمل عنوان «زون مي»، اشترك في إنجازه الفنانان سيدي العربي الشرقاوي وجيل ديلماس، والأول راقص ومصمم رقصات مغربي الأصل نشأ في بلجيكا، والثاني مصور تلفزيوني فرنسي. وهما يعملان معا، ويترددان على متحف الهجرة، لكي تكون أعمالهما المشتركة بمثابة مقياس يجس نبض المهاجرين وقضايا الحدود والهوية والتعدد الثقافي ومشكلات الانتماء.
لقد جاء الشرقاوي بـ21 راقصا من دول كثيرة؛ إسبانيا، آيسلندا، بنغلاديش، بلجيكا، الهند، السويد، بريطانيا وغيرها، وأقام لهم هيكلا رمزيا داخل متحف الهجرة يدعى «زون مي»، لكي يكون بمثابة المنزل الخالي من النوافذ والأبواب، لكنه ملغوم بالكاميرات والشاشات. إن البيت غريب وغير مريح، وكل ما يدور داخله هو مادة معروضة على زوار المتحف. والنتيجة هي أن الراقصين يحاولون التعايش بانسجام مع حدود هذا الهيكل الجامع، ويتبادلون الحركات والخطوات المتناسقة التي تجعلهم جزءا من عرض مسرحي موحد، لكن كلا منهم يحاول، في الوقت نفسه، إيجاد فسحة حميمة تخصه وحده، ولا تنقلها الكاميرا إلى الخارج. أليست الهجرة هي هذا الانتقال غير المريح من مكان أليف إلى آخر غريب يضطر فيه المرء للتعامل مع سحنات ولغات وطباع مغايرة؟ إن حدود هذا العمل الفريد تمتد إلى أبعد من «زون مي»، ذلك أن المصور ذهب إلى البيوت والشقق الحقيقية التي نشأ الراقصون فيها وسكنوها، وحاول نقل العلاقة بين الجسد والفضاء الذي يقيم فيه.
يستوقف الزائر، أيضا، العمل الذي تقدمه منى حاطوم، وعنوانه «بخارى». وهو عبارة عن سجادة أفغانية تشبه تلك القطع من السجاد التي كان يجمعها والدها حين كانت العائلة تسكن في فلسطين. إنها سجادة ذات ألوان نبيذية، تعتقت من كثرة ما احتكت بها الأقدام، وتمزقت بعض خيوطها، بحيث ارتسمت عليها خارطة العالم. وهناك أعمال الفنانة الإيرانية المولد، غزال. لقد هاجرت إلى فرنسا منذ ربع قرن، وراحت تشتغل على فكرة التيه في العالم، والبحث عن انتماء مفتقد هو بمثابة البحث الدائم عن الذات. وبين عامي 2003 و2008 راحت غزال تصور نفسها بالفيديو في سلسلة من البورتريهات الذاتية التي تبدو فيها وهي ترتدي التشادور، الذي تتحول أشكاله مع مرور الصور والسنوات.
أما المصور بورويسة فقد حمل الكاميرا إلى ضواحي باريس، وراح يلتقط وجوه المهاجرين وتعبيراتهم الخاصة. إنها صور فوتوغرافية لا تقترب من الريبورتاج الصحافي، بقدر ما تحاول سبر الوجوه لاقتناص ما توحي به من تشابه مع لوحات خلدها تاريخ الفن. وهناك العمل المدهش لقادر عطية، وعنوانه «ماكينة الأحلام». وفيه نرى شابة ترتدي ثيابا رياضية تحمل علامة «حلال» وتغطي شعرها بمنديل، تقف أمام ماكينة للتوزيع الآلي للبضائع، وترى ما بداخلها من أشياء؛ واقٍ ذكري أو أحمر شفاه أو بطاقة ائتمان أو جهاز عرس. وكلها أمور تحلم الشابة المهاجرة بها وتخشى أن تكون مخالفة لعقيدتها. ويوضح الفنان أنه أنجز هذا العمل حين كانت البضائع الحلال نادرة في الأسواق الفرنسية، وقبل أن يصبح لكل سلعة ما يوازيها من مرادف يحترم الشريعة، من اللحوم المذبوحة وحتى العقاقير الطبية.
يبذل القائمون على متحف الهجرة جهدا ملحوظا لتقديم كل ما يثير المخيلة ويتوغل عميقا في النفس البشرية، بل إن المبنى الذي يشغله في الدائرة 12 من باريس، على مشارف غابة فنسان، له حكايته الخاصة. فقد تم تشييده عام 1931 بمناسبة إقامة المعرض الكولونيالي، ثم أصبح متحفا للفنون الأفريقية قبل أن يخصص كمقر لمتحف الهجرة الجديد.
10-02-2012
المصدر/ جريدة الشرق الأوسط