لم يكن أنسب لتجسيد نقاش حول تقاطع الشرق والغرب في مجال الفن والثقافة، و خصوصا في التشكيل من الاستماع إلى حوار نقدي وثقافي مشترك حول التجربة التشكيلية المغربية والأندلسية بين الفنان التشكيلي المغربي أحمد بن يسف والفنان التشكيلي والغرافي الإسباني أنطونوي أغودو، اللذان اهتما برصد مراحل وصول التشكيل إلى المغرب والعالم العربي، وكذلك أثر التشكيل الغربي على نظيره المغربي. وعلى الرغم من أن مداخلها لاستشراف مكامن التجربة التشكيلية كان متباينا ،إلا انهما كانا يستقران على جوهر و احد وهو انسباغ التشيكل في ضفتي المتوسط بالشروط الثقافية والفكرية والتاريخية المتبلورة في التربة المتوسطية وتأثير الاطراف في أوساط النسق الفني الممتد في عمر التشكيل في الضفتين على تفاوتهما.
وقد انبرى بن يسف في كلمته التي ألقيت في حضور عدد لافت من الحضور، يقلب في مسارات تاريخ التشكيل المغربي الذي اعتبر بدايته متأخرة للغاية بالنظر إلى نظيره في الضفة الشمالية، إلا انه مع ذلك، استطاع هذا التشكيل، بنظره أن يؤسس فرادته الفنية ويجلي خصوصيته الثقافية والإنسانية بالنظر إلى التجربة التشيكيلية في الضفة الاندلسية والإسبانية. ويؤكد بن يسف ان الكاليغرافية العربية مثلا جعلت المبدع العربي منذ القديم يراكم حسا فنيا سرعان ما كان له أثره في الإسراع بتقبل الفن التشكيلي الذي دخل إلى العالم العربي عبر الاحتكاك بالغرب، حيث اخذو عنه أدبياته النهائية، ومع ذلك فإن " التشيكيلين المغاربة عبر تاريخ التشكيل المغربي قد استعاروا الأدوات والمناهج الفنية من نظرائهم الغربيين وخاصة الإسبان إلا انهم استطاعو أن ينتجوا موضوعاتهم الخاصة، وبلوروا رؤية فنية ذاتية تنطق بمعالم ثقافتهم وحضارتهم العربية". وتوقف بن يسف عند نموذج مدرسة الفنون الجميلة بتطوان التي تخرج منها كبار التشكيليين المغاربة بل وحتى الإسبان، فبالرغم من حداثته حيث لم تؤسس إلا في العام1945 ، إلا أن طلابه، كما يؤكد صاحب جدارية إشبيلية، استطاعوا البروز في مسارهم التعليمي في كلية الفنون الجميلة بإشبيلية، وتفوقوا على نظرائهم بالجامعة الإسبانية نفسها، بدليل ظفرهم بجوائز مثلما حصل مع بن يسف نفسه الذي ظفر بجوائز منها جائزة فن الرسم الكلاسكي القديم ، ومنحة المناظر الطبيعة بغرناطة. واستحضر بن يسف أسماء مغربية من الرعيل الأول للمعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان التي استطاعت أن تستنبت في التربة الفنية للضفة الشمالية تجارب تشكيلية مشبعة بالخصوصية الثقافية المغربية، جسدتها أعمال أسماء من مثل المكي مغارة، وسعيد السفاج وعزيز بوعلي وآخرون.
ويبقى التشكيلي المغربي عموما بنظر بن يسف فنانا منتفتحا على التجارب الغربية ومتشبع بها، ويستوعبها في وقت وجيز لكنه في نفس الآن يقاوم هيمنتها ويضع مسافة بينه وبينها، وقد تكون الأداة غربية لكن يبقى الموضوع الفني والإنساني والجمالي مرتبطا بروحانية ذاتية منبعثة من رحم الثقافة والقيم العربية والإسلامية.
الوجه الآخر للنقاش تبلور في مداخلة الفنان التشكيلي والغرافي انطونيو أغودو له لوحات معروضة في "المايسترانسا " و"قصر ثاروثيلا"، التي اتجهت نحو الغوص في النسق الثقافي والتاريخي العام للتجربة التشكيلية العربية في إسبانيا والاندلس مع طلاب تشكيليين مغارية التحقوا بالجامعات الإسبانية في مقدمتها كلية الفنون الجميلة بإشبيلية، وأبرز تاثير النسق الفكري والفني والجمالي الذي تبلور في رحاب الأندلس التاريخية على نمطية الاداء الفني، وألفاها نمطية مرتبطة بالتصورات العقلية لكبار مفكري الأندلس مثل ابن رشد وابن خلدون وغيرهما، وكانت الممارسة الفكرية في الأندلس شكلت جسرا حقيقا بين الفكر في الشرق و في الغرب .واعتبر أن هذه المعطيات جيمعها تأخذ تجليات عند التشكيليين المغاربة والعرب والمسلمين عموما في أعمالهم المعاصرة، وتوقف عند أعمال تشكيلية ولوحات فنية رصد فيها ذلك التجاذب الثقافي بين الأثر الغربي في الرؤية الفنية، والمعالجة الذاتية الملتصقة بالروحانية الفنية العربي والإسلامية، وتبقى لوحة تشكيلي مغربي حل بإسبانيا مع جيل السبعينات او يزيد قليلا ، تضمنت في فضائها رسما صوريا لشخص يعزف نايا، وبدت ملامح الوجه و الجسد تستتر خلف ضابية لا تسلم الصورة إلى منتهاها التجسيمي بل تغيب فيها في حدود وسطى تقاوم الانتهاء إلى طرفي الوجود الفني ،واعتبرها انطونيو اغودو لوحة تترجم تصارع التوجهات الفنية في اللوحة الناجمة عن تأثر ذلك التشكيلي المغربي بالإكراهات الجمالية للحركة التشكيلية الغربية التي تجنح نحو التجسيد والتجسيم وبين النزعة الرمزية والتجريدية والإيحائية العربية الإسلامية التي كانت تخفف لدى الفنان من غلواء التجسيم. واعتبر أغودو اللوحة كأنما تقيم حوارا خفيا بين الغرب والشرق.
ويؤطر هذا النقاش النظري والنقدي الذي استند في تحليلات الفنانين أحمد بن يسف وأغودو إلى ممارسة فنية مرتبطة بجغرافية تحمل فكرا متنوعا ومتعددا تتعانق داخل وحدة تترامى على أطراف المتوسط، يؤطر مشروعا فنيا وثقفيا لتجديد الاحتكاك بين الذائقة التشكيلية المغربية ونظيريته الاندلسية، عبر برنامج " لنبدع"الذي تحتضنه كلية الفنون الجميلة بإشبيلية ومدرسة الفنون الجيملة بتطوان ومؤسسة الثقافات الثلاث بالعاصمة الاندلسية. سيتيح البرنامج فرص تقارب الرؤى الفنية الثاوية في الجيل التشكيلي الجديد الصاعد من رحم المؤسستين التشكيليتين بتطوان وإشبيلية ، والانفتاح على الفضاءات الجغرافية والاجتماعية والإنساية لجنوب المتوسط كما في شماله،وسوف تستنفر لدى فرشاتهم ا نفعالات روحية، ستكون اللقاءات تلك في نهاية المطاف حيز لعقد لقاء جديد في رحاب التشكيل بين الشرق والغرب.
16-03-2012
المصدر/ موقع ألف بوست