الخميس، 26 دجنبر 2024 16:25

أحلام الهجرة تتحوّل إلى كوابيس في رواية (سان دني) للروائي تونسي علي مصباح

الثلاثاء, 06 أكتوير 2015

يتقصّى التونسي علي مصباح (1953)، في روايته الجديدة (سان دني) (دار الجمل، 2105 )، ماضي الشباب التونسي المهاجر إلى فرنسا، وبحثهم عن ذواتهم المهدورة هناك، عبر الانكباب على تحقيق الغايات المنشودة، ليجدوا أنفسهم في بحر من الصراعات والتناقضات والمشقّات التي كانت تتراكم في طريقهم، وتحرفهم عن مساراتهم المرسومة، فيقعوا في فخاخ اليأس أو التشرّد أو الضياع.

تعود الرواية إلى سنوات السبعينيات والثمانينات من القرن العشرين في تونس وفرنسا، وترصد المتغيِّرات التي طرأت على ذهنيات أولئك الشباب الذي هاجروا إلى باريس طلباً للعلم، أو للعمل، وكيف أصبحت حياتهم هناك مزيجاً من الغربة المركَّبة، إذ تعرَّضَ قسم منهم للابتزاز بشتّى السبل، سواء من أبناء بلده، أو من آخرين لم يرحموه، واضطرّ إلى تقوية آلياته الدفاعية، ليتمكّن من الاستمرار والصمود، وتحدّي الظروف التي وجد نفسه عالقاً في قيودها.

السفينة التي تقلّ الشباب عبر المتوسّط، لم تكن وسيلة نقل تقليدية فحسب، بل كانت ترتحل بهم إلى عوالم من الأوهام والأحلام معاً. كان الإبحار صوب الشمال قِبْلتهم، لكنهم أضاعوا في تلك الجهة أعمارهم، ولم يتمكّنوا من تحقيق ثوراتهم التي حلموا بها، واقتصرت تلك النضالات المتخيّلة على معارك مع الظروف والغربة والمهجر والأصدقاء، هناك.

يسلّط المؤلِّف المقيم في برلين، الضوء على واقع العمّال العرب والأفارقة في باريس وعلاقاتهم فيما بينهم، وعلاقاتهم مع أبناء البلد، وكيف أنّهم كانوا يحملون في دواخلهم قهراً مضاعفاً، يتناقلونه فيما بينهم كفيروس معدٍ، وهو قهر فرضته الوقائع الحياتية هناك، ولا سيّما في ظلّ الاضطرار لتوفير متطلّبات العيش من مأكل وملبس ومأوى، ناهيك عن أنّ تأميناً فرديّاً كان يوجب على صاحبه استنفار طاقاته وإمكانياته البسيطة لإنقاذ آخرين كانوا معه في مستنقعه السابق.

ينتشل المؤلِّف ذكريات، تجمع بين الأسى والكوميديا، من قاع ذاكرة مهاجر مغترب، استقى دروسه من واقعه وتجربته، وزادته الأيام حنكةً ومراساً ومرونًة للتأقلم مع زمنه، ومَنَحته القدرة على النظر إلى ماضيه بشيء من البهجة الممزوجة بالمرارة، على تلك الإمكانيات المهدورة والطاقات المستباحة على أرصفة مدن غربيّة كانت أحنّ، في كثير من الأحيان، على اللاجئين إليها، من أوطانهم الأصليّة.

إنها خيبة جيل الشباب العربيّ في مرحلة ما بعد الاستقلال، ووقوعهم بين براثن إيديولوجيات سدّت الطريق أمامهم إلى واقعهم ومستقبلهم، وأبقتهم في دوّامة من الصراعات المجّانية الدائرة في الفلك نفسه، والتي كانت تكتسب مقوّمات تجدُّدها من المستجدّات المفعمة بالنقائض، فالأنظمة التي يُفتَرض أن تكون ثوريّة كانت تؤسّس لدكتاتوريات قادمة، تنحرف عن مسار الثورة لتقع في مطبّ الإقصاء والثأر والانتقام، وانتقلت لبناء منظومات قمعيّة بدلاً من أنظمة ديموقراطيّة مأمولة. ومن هذا المنطلق يعاين مصباح، في روايته، واقع اليسار العربيّ في باريس، وكيف أنّ اليساريين كانوا يفكّرون بطريقة طفوليّة، أو يعانون مراهقة فكريّة، يكرّرون المصطلحات والمفاهيم، ويستعيرونها بطريقة مضحكة مبكية في الوقت نفسه، يحاولون قولبة مجتمعاتهم وتطبيق تلك النظريات عليها، في الوقت الذي كانوا يترفّعون فيه عن واقع تلك المجتمعات، ويتعاملون معها على أنّها بحاجة إلى تغييرات جذريّة، من غير أن يشاركوا بفعّالية فيها، أو من دون أن يُفسَح لهم التأثير في أيّ تغيير.

يبرز مصباح كيف أنّ أحلام كثير من الشباب المهاجرين، بمن فيهم أولئك المبالغين في أوهامهم وثوريتهم، كانت تنتقل من ضفّة الثورة والديموقراطية والحقوق والواجبات والمفاهيم والشعارات العريضة إلى ساحة الغرائز والشهوات والجنس، فيسعون إلى إرواء شهواتهم والإيقاع بالفتيات، واستدراجهنّ إلى الأَسِرّة، ونسيان ما كانوا يلهجون به تحت وقع اللذائذ المسترقة من براثن الواقع القاهر.

علي، فرنسواز، فطيمة، محمود، حسني، مجيد، سامية، عبد الرحيم، ماهر، حليم، مريم، وغيرهم كثيرون، من شخصيات طلابية وأدبية وفنية، وعمال وسكارى وضائعين في دروب الحياة الباريسية، يشكّلون معالم أمكنة الروائيّ ويلوّنون ملامحها بحسب أفكارهم ومعتقداتهم وممارساتهم، بحضورهم فيها وغيابهم عنها، ومرورهم فيها.

يلجأ مصباح إلى السخرية السوداء، وهي سخرية يمارسها أبطال روايته بحقّ أنفسهم ومجايليهم، وتكاد تكون السخرية تيمة فنيّة لديه في أكثر من عمل له، ولا سيّما في عمله السابق (حارة السفهاء) الذي صوّر فيه سيرة ديكتاتور مستبدّ يمارس أشنع الأعمال في بلاده، وينتقل برعِيّته، من جانب إلى آخر، بطريقة مجنونة، وعبر سلسلة من الممارسات الساخرة، تمتزج فيها الفكاهة بالإيذاء والتنكيل بالبلاد وأهلها.

يصف الراوي منطقة سان دني بقوله إنّها ذلك العالم العجيب: البارات الشعبية، حُرَفاء من العاطلين عن العمل وبقايا عساكر الحروب الكولونيالية، نساء منقّعات في الكحول منذ عشرات السنين، العيون المتورّمة بطول السهر وكثرة النوم نهاراً، النظرات المائهة وراء الستارة الوردية التي تغشى المُقَل على الدوام، الصراخ والزعيق وتبادل الشتائم والمداعبات الفاجرة. وهو وصف يكاد ينطبق على أكثر من مكان، لا من حيث انطباقه على مقيميه ومرتاديه، بل من حيث مدمنيه الهاربين من جنون أعظم من الجنون الذي يصِمه.

يُعَنْوِن مصباح أحد فصوله بـ(الإخوة الأعداء)، وهو عنوان رواية لليونانيّ نيكوس كازانتزاكيس. يؤرّخ فيه لحظات الانكسار والتعاسة، ويلتقط بدايات الانفصال والتصادم، وكيف أنّ رفاق الأمس أصبحوا أعداء اليوم، ودخلوا في مرحلة الاحتراب والتعارك. يصرّح راويه، بكثير من الأسى: «بدأنا نتصادم. تحوّلت الصدامات إلى تقاتُل. الشكّ يرجّ البعض منّا، ويلقي به في عراء أسئلة جديدة عنيدة وقاسية، بينما يدعّم لدى الطرف آخر يقينه. الشكّ والتساؤلات مثل جرثومة تسري في الجسد تستنفر لها المناعة اليقينية، تترنّح لدى البعض، بينما (المعاقون) يدعّمون يقينهم بنبذ المصابين والابتعاد عنهم، تدريجياً، قبل أن تضرب حولهم الكارنتينة".

يرمز الروائي- في النهاية، بقوله: «كلّ شيء في الماء؟ كلا، كلّ شيء في السيل»- إلى حالة الغرق التي تتربّص بالجميع، سواء أوصلوا أم لم يصلوا. ذلك أنّ الغرق في وحول المدينة المفترسة كان يتربّص بالشباب اللاجئين إلى فردوس باريس المفترَض، والغرق يتشظّى في أكثر من اتّجاه، غرق مادّيّ ملموس، وآخر نفسيّ وروحيّ محسوس، وبين الغرقين كانت حالات أخرى من التبدّد والضياع تتجسّد، بطريقة أو بأخرى، وهي حالات خرجت عن إطار الفرد، بحيث كادت تشكّل ظاهرة بعينها، ظاهرة الشباب المقصيّ عن أوطانه، وعن أحلامه، الساعي إلى تحقيق ذاته، والعاثر الحظّ في رحلاته وتنقّلاته.

عن جريدة الصباح الجديد

Google+ Google+