سنغافورة - سكان سنغافورة الهادئة يثورون ضد الوافدين الجدد

الثلاثاء, 31 يوليوز 2012

وقعت الفاجعة عندما كان ما تشي يقود سيارته متجاوزا الحد الأقصى للسرعة في شارع بوسط المدينة واجتاز إشارة حمراء ليصطدم بتاكسي، ويموت هو وراكبا التاكسي. ولم يشفع له أيضا أنه كان يقود سيارة «فيراري» بقيمة 1.4 مليون دولار في أحد أيام شهر مايو (أيار)، أو أن المرأة التي بجواره لم تكن زوجته. لكن ما أطلق بالفعل موجة من الغضب في أنحاء هذه الجزيرة الهادئة عادة هو أن تشي (31 عاما) مستثمر مالي، كان يحمل جواز سفر صينيا، ووصل إلى سنغافورة قبل أربع سنوات.

وأثارت الحادثة، التي التقطتها كاميرا تاكسي آخر، موجة غضب كانت تعتمل منذ وقت طويل ضد تزايد أعداد الوافدين الجدد من الصين، التي تشكل جزءا من موجة الهجرة التي أشرفت عليها الحكومة السنغافورية، لتضاعف عدد سكان الجزيرة إلى 5.2 مليون شخص منذ 1990. ووصل ما يقرب من مليون من هؤلاء الوافدين الجدد خلال العقد الماضي يجذبهم في ذلك الاستثمارات المالية وسياسة التأشيرات الحرة التي تهدف إلى مواجهة انخفاض معدل المواليد في سنغافورة.

وتقض التوترات بشأن الهجرة مضاجع الكثير من الدول، لكن أكثر ما يثير الدهشة بشأن الصدام هنا هو أن غالبية سكان سنغافورة ينحدرون من العرقية الصينية، حيث تعود أصول الكثير منهم إلى المهاجرين الصينيين الأوائل. وهذا التناقض لم يغب عن ألفين تان، مخرج مسرح المجتمع الذي يتناول القضايا الاجتماعية الشائكة. ويقول تان، الذي يعتبر خليطا من السلالة المالاوية - الصينية ولا يتحدث لغة المندرين: «الصينيون قد يشبهوننا، لكنهم ليسوا مثلنا. السنغافوريون يحتقرون الصينيين ويعتبرونهم سكان دولة متخلفة ويحتقروننا لأننا لا نستطيع الحديث بلغة صينية سليمة».

يتحمل الصينيون اللوم في ارتفاع أسعار العقارات، والحصول على أفضل الوظائف، وازدحام الطرق بالسيارات الرياضية الأوروبية الفارهة. ويشكو رواد المقاهي من أنهم بحاجة إلى لغة المندرين ليتمكنوا من طلب مشروبهم المفضل كوبي - تشي (القهوة المحلاة باللبن المجفف). وهناك روايات كثيرة عن سيدات صينيات يغررن بالأزواج لإبعادهم عن أسرهم. وقال جولوفان وام، المدير التنفيذي للمؤسسة التي تساعد العمال الأجانب، حيث يواجه الكثيرون منهم ظروف عمل استغلالية: «تستيقظ سنغافورة كل صباح لتجد القطارات أكثر ازدحاما بأشخاص يتحدثون لغة المندرين، ولا يجيدونها. لقد أصبح كم كراهية الأجانب الذي نشهده مروعا للغاية».

وخلال الأيام التي تلت الحادثة غصت وسائل التواصل الاجتماعي بالتعليقات التي تلقي باللائمة على أبناء الجالية الصينية في تغير الصفات الكريمة والمهذبة التي طالما اتسمت بها سنغافورة. ووصف مدونون ما تشي بالمدلل والفاسد، واتهموه خطأ بأنه ابن مسؤول قوي في الصين واقترحوا ضرورة أن تحاكمه الشرطة بعد وفاته. وأنشأ المعارضون صفحة «فيس بوك» ساخرة، امتلأت بالقدح القبيح. ويقول أحد التعليقات المضمرة: «بئس المصير! تمتع بجهنم فأنت جزء من نفاية البر الرئيسي».

وأثار هذا الحقد انزعاج حكومة سنغافورة، التي طالما اعتمدت على وسائل الإعلام والقوانين الصارمة للحفاظ على التناغم العرقي والديني في مجتمع متعدد الثقافات، والذي يصدر بشكل كبير عن أبناء الطبقة الوسطى. وفي خطابه الأخير أمام اللجنة البرلمانية، دافع نائب رئيس الوزراء توي تشي هين، عن السياسات التي تنتهجها بلاده قائلا إن العمال الأجانب - سواء المتعلمون وغير المهرة - لا غنى عنهم لمواجهة تقدم السن بشكل كبير والحفاظ على زخم اقتصاد سنغافورة المتوهج. وقال متحدثا باللغة الإنجليزية، اللغة المشتركة في سنغافورة: «هذا طبيعي تماما، فنحن نتوقع أن يتكيف المهاجرون الجدد مع قيمنا والمعايير، وسوف نغضب إذا لم يلتزموا بذلك. بيد أنني أقر أن علينا ألا ندع ردود الفعل الأخيرة تجاه المهاجرين الجدد والأجانب تلغي العمل الجيد الذي قمنا به في بناء مجتمع قوي ومتماسك من ناس من بقاع شتى».

يذكر أن أكثر من ثلث سكان سنغافورة هم الآن من المولودين الجدد، ورغم رفض الحكومة الإفصاح عن الإحصاءات الخاصة بأصول المهاجرين، يسارع المسؤولون إلى التأكيد أن غالبية السكان الجدد يأتون من دول أخرى غير الصين، حيث إن نحو النصف منهم من جنوب شرقي آسيا. ويشيرون بشكل خاص إلى أن الكثيرين من الأثرياء الوافدين إلى سنغافورة ينحدرون من لندن ودبي ونيودلهي والصين. من بين ذلك إدواردو سافرين، البرازيلي المولد والمؤسس المشارك في «فيس بوك» والذي أثار تخليه عن جواز سفره الأميركي مقابل الإقامة في سنغافورة عاصفة في واشنطن العام الحالي. بيد أن القضية بدأت تلوح على المشهد السياسي، ويشير الكثير من المحللين إلى أن الغضب بشأن الهجرة أسهم في خسارة حزب العمل الشعبي الحاكم غير المتوقعة في الانتخابات البرلمانية العام الماضي.

بدأت الحكومة بالفعل في ضبط تقاطر المهاجرين.. فقد انخفض عدد المقيمين بشكل دائم إلى ما يقرب الثلثين منذ عام 2008 عندما تم قبول طلبات 80000 شخص، في الوقت الذي لا يزال فيه منح الجنسية متوقفا عند 18500 شخص سنويا، بحسب إحصاءات قسم الموهبة والسكان الوطني. على الرغم من العداء المتزايد لا تزال سنغافورة تحتل المرتبة الثالثة كأكثر بلد رغبة في الهجرة إليه بالنسبة للأثرياء الصينيين بعد الولايات المتحدة وكندا، بحسب المسح الذي أجراه بنك الصين وتقرير «هورون»، الذي يعد قائمة سنوية بأثرياء الصين.

وعلى الرغم من اقتصار الضجة بشكل كبير على الإنترنت، خرج السنغافوريون في مظاهرة شعبية نادرة ضد المهاجرين الجدد الصيف الماضي بعد شكوى عائلة من الصين من روائح الكاري التي تهب عليهم من شقة جيرانهم ذوي العرقية الهندية. جذبت الحملة التي تم تنظيمها عبر «فيس بوك» والتي جذبت عشرات الآلاف من المؤيدين الذين تعهدوا بطبخ العشاء بالكاري في نفس اليوم.

شهدت سنغافورة في مارس (آذار) واقعة أخرى بعد تغريم طالب صيني في جامعة سنغافورة الوطنية 3000 دولار سنغافوري (2390 دولارا أميركيا) لإشارته إلى السنغافوريين بأنهم كلاب في تغريدة له على مدونة صينية مصغرة. الطالب الذي أجبر على أداء ثلاثة أشهر من الخدمة العامة وإعادة قيمة فصل دراسي من المساعدة المالية، أوضح أنه كان غاضبا من نظرات الاستهجان التي ينظر إليه بها المسنون السنغافوريون الذين يصطدم بهم بشكل عرضي على الرصيف. وتسبب فحوى النقاش في توتر بعض المهاجرين الصينيين وغضب آخرين. يتمتع المواطن السنغافوري التقليدي بدخل أفضل من المواطن العادي في الصين. ويعيش آلاف من الطلبة الصينيين هنا، إضافة إلى بعض الأمهات الذين يحضرون إلى هنا لإعالة أطفالهم عبر العمل بصورة غير قانونية كخادمات في المنازل، وربما ما هو أسوأ. وفي غيلانغ منطقة الملاهي الليلية تفوق أعداد النساء القادمات من الصين نظيراتهن القادمات من تايلاند والفلبين. ويتكيف الكثير من الصينيين بنجاح مع المجتمع، وبحسب الإحصاءات الرسمية ارتفعت نسبة زيجات السنغافوريين من أجانب من 23 في المائة قبل عقد إلى 30 في المائة في الوقت الراهن، لكن مرور الوقت لا يعني بضرورة الحال تضييق الهوة الثقافية.

يعترف يانغ مو، الاقتصادي المولود في بكين، والذي انتقل إلى سنغافورة عام 1992 وحصل على الجنسية بعد ثلاث سنوات، بجملة من الاختلافات الظاهرية، مشيرا إلى أنه يجد السكان المحليين معزولين نوعا ما، وأكثر رغبة في العمل حتى وقت متأخر وأقل رغبة في قضاء الليل في الحديث أثناء تناول المشروبات. وعلى عكس السنغافوريين لن يتخلى الصينيون عن قيمهم على الإطلاق. ويقول يانغ (66 عاما) الذي عمل في السابق مسؤولا في مؤسسة خيرية محلية ويقوم بتدريس اللغة الإنجليزية للمهاجرين الصينيين: «أدليت بصوتي في 4 انتخابات إلى الآن، ومن الرائع أن أعيش في بلد يمكنني أن أثق فيه بالحكومة والأفراد، لكني ما زلت أشعر أنني لست سنغافوريا. الحقيقة أنه عندما أتقاعد ربما أعود ثانية إلى الصين».

المصدر/ جريدة الشرق الأوسط

«أبريل 2024»
اثنينثلاثاءالأربعاءخميسجمعةسبتالأحد
1234567
891011121314
15161718192021
22232425262728
2930     
Google+ Google+