الفنانون الرواد وقد حفظنا أسماءهم، والجيل التالي من المبدعين وقد رأينا أعمالهم تطوف في العواصم.. فماذا عن الشباب والشابات؟ ماذا يرسمون وما وسائلهم التعبيرية التي يخاطبون بها الرائي وبأي عين ينظرون إلى العالم وكيف هي التجاذبات والتأثيرات بين أعمالهم وبين ما تطرحه الساحة العالمية للفنون التشكيلية المعاصرة؟
إنها الأسئلة التي يحاول، بهذا القدر أو ذاك من النجاح، أن يجيب عليه معرض يقام في معهد العالم العربي في باريس، منذ مطلع هذا الأسبوع ويستمر حتى 3 فبراير (شباط) من العام المقبل. وإذا كان القائمون على تنظيم المعرض قد وجدوا أنفسهم أمام صعوبة الإلمام بكافة جوانب التجربة الفنية العربية الحديثة فإنهم تمكنوا من أن يجمعوا أعمال 40 فنانا يصفهم دليل المعرض بأنهم من أهم المبدعين الشباب الذين ظهروا خلال ربع القرن الأخير، وقد خصصت مساحة 1200 متر مربع لعرض أعمالهم، مع إصدار مجلد مصور عنهم وعن إنجازهم. لماذا اختيار هذه الفترة الزمنية بالتحديد؟ لأن المعهد يحتفل، هذا العام، بالذكرى 25 لتأسيسه كصرح ثقافي عربي نشيط ومهم في عاصمة النور.
أوكل المعهد مفوضية المعرض إلى الناقد الفني المصري إيهاب اللبان. ويخبرنا الكراس الموزع على الصحافة أن الفن العربي المعاصر، الغني بالتأثيرات الآتية من آسيا وأفريقيا وأوروبا، يتميز بتنوع كبير للأساليب. فقد سافر عدد كبير من الفنانين للدراسة في البلدان الأوروبية وأميركا. وإذا كان بعضهم قد اختار أن يستقر في تلك البلاد فإن الغالبية عادت إلى أوطانها لمتابعة عملها الفني في المكان الأول والحاضنة الأم. من هنا نلاحظ أن كثيرا من الأعمال المعروضة هي لفنانين يقيمون ويعملون في فرنسا أو ألمانيا أو كندا أو الولايات المتحدة وغيرها من بلاد الله الواسعة. هل هو الافتقاد إلى الحرية ما يدفع المبدع الشاب إلى أن يهاجر أم هي الرغبة في البقاء على تماس مع المدارس والمعارض والتجارب الفنية المحتدمة والأسواق العالمية الجديدة؟
يحاول الفنانون الشباب، بعد ثورة المواصلات والتواصل الإلكتروني، أن ينفتحوا على عدد من الثقافات وأن يقدموا نوعا من «صهر» تلك المكونات لينسجوا رباطا فريدا بين الشرق والغرب، بكل ما يعج به هذا العالم من تغيرات عميقة. وإذا كان هذا المعرض يحرص على إبراز التغيرات التي طرأت على مدى العقدين أو الثلاثة الماضية فإنه، في الوقت نفسه، يسعى إلى توضيح الاتجاهات الرئيسية التي يعتمدها الفنانون العرب وكشف ينابيع إلهامهم التي تؤثر على فنهم وتطبعه بخصائصه المتميزة. كما يأمل القائمون على المعرض أن يقدموا نظرة شاملة، بقدر الإمكان، للتوجهات وطرق البحث والتجريب في الإبداع الفني العربي منذ 25 عاما، عبر أعمال 40 فنانا، وبوسائط متعددة: الرسم والنحت والتصوير الفوتوغرافي والإنشاءات، أو التجهيزات، والفيديو. وهم قد طلبوا من الفنانين تحضير أعمال خصيصا لهذه المناسبة.
خلال العقود الماضية من عمره، نظم معهد العالم العربي أكثر من 100 معرض فني. ويقول إيهاب اللبان، مفوض المعرض الحالي، إن هناك ملامح حضارية وسمات ثقافية كثيرة ومتباينة، يتكون عبر تحاورها شكل أي مجتمع. وعن طريق رصد هذه الصفات وملاحظتها يتوصل المشاهد إلى رسم صورة شارحة وإلى بناء مشهد شبه متكامل لشخصية المجتمع وطبائع أهله.
تلفت كثير من الأعمال النظر وتدعو إلى التأمل، لا سيما تلك التي أنجزتها فنانات من الأجيال الجديدة، مثيلات الليبية أروى أبو عون ولوحاتها ذات المتواليات التي تمثل نساء بأحجبة متعددة الألوان وهن في أوضاع الصلاة، أو الإماراتية إبتسام عبد العزيز وصورها التي تحمل عنوان «دماغي»، أو اللبنانية دوريس بيطار علمها الأميركي الذي جعلت منه طرحة حمراء لعروس بغدادية، أو السعودية ريم الفيصل ولوحاتها الفوتوغرافية المميزة، أو السورية ديانا الحديد ومنحوتتها «ضريح المجهولين»، أو التونسية نادية كعبي وتجهيزها المعنون «أميركان تونسيون» الذي يتألف من عشرات القوارير الصغيرة المصفوفة في مربعات خشبية وفي داخل كل منها حفنة من قبور جنود أميركيين فقدوا حياتهم على أرض تونس، أو الكويتية تمارا السامرائي وصورها الفوتوغرافية لنساء بالأبيض والأسود وكأنهن آتيات من منتصف القرن الماضي وراغبات في مغادرة الإطار والعيش في الحاضر.
ولا يملك المشاهد سوى أن يقف متأملا لوحة «لغة الصحراء» البديعة للفنان القطري أحمد يوسف، هذا على الرغم من أن هذا العمل الذي تدخل الرمال في تشكيل خطوطه العربية المموهة، قد عرض في زاوية غير مناسبة من الصالة. ومن الأعمال ذات الأصالة منحوتة الفنان المصري آرمين آغوب التي تشبه هرما دائريا قاتم اللون وعنوانها «صوان أسود». وهناك تلك الحجرة المكعبة التي تمتلئ جدرانها بـشعارات وكتابات و«كلام فارغ»، وهو عنوان العمل الذي يقترحه الفنان اللبناني أيمن بعلبكي. وطبعا فإن لوحة «كيف لا تبدو إرهابيا بعين السلطات في المطارات الأميركية» للفنان العراقي محمود العبيدي تدعو إلى التأمل، أيضا، وتعكس الهم السياسي والوجودي الراهن الذي يفرض نفسه على الفنانين الشباب. وإلى جانب هذا تعود أعمال المصري عادل السيوي لتحوز الاهتمام بتقنياتها التي تؤكد موهبته واشتغاله الفذ على الألوان.
إنها مجرد نماذج من أعمال كثيرة تستحق المشاهدة ويثير الكثير منها الإعجاب. وهي علامات منتقاة لما يمكن أن يتمخض عنه المشهد الفني العربي خلال العقود المقبلة.
18-10-2012
المصدر/ جريدة الشرق الأوسط