الأربعاء، 03 يوليوز 2024 14:17

أكادير- عبد الله سماط٬ ابن أولوز الذي لم يستسغ بعد نصف قرن كدمة "مورا"

الإثنين, 17 دجنبر 2012

لاشيء على الإطلاق كان يؤهل عبد الله سماط٬ هذا الشخص ذو البنية الصغيرة الذي لم يبلغ بعد سن الـ 28 عاما٬ ليحمل وزر تمثيل أجيال ممن سبقوه على رأس جمعية المنجميين السابقين بشمال فرنسا٬ بكل ما أوتي من عزم ومن حرقة الفحم في الجسد كما في الذاكرة.

والحال أن "حياة السي عبد الله تكاد لا تنفصل عن مسار الجمعية التي كان من مؤسسيها والتي ما يزال يرأسها منذ إحداثها في سنة 1989"٬ كما أفاد بذلك خالد العيوض٬ ناشط جمعوي وأحد مخرجي شريط وثائقي بعنوان "الوجوه السوداء تروي قصة الفحم" (2012).

ومن يدري؟ فلربما كانت هذه الشخصية تصر على التخفي عمدا وراء شارب اشتعل شيبا وشعر كث لا ينبئ بعمر صاحبه أو ذاكرة يقظة تنتبه لأدق التواريخ والتفاصيل والأحداث لكي تعاود الهيمنة من جديد على مسار ومصير جمعية أحدثت منذ 23 عاما،. "لا٬ لا٬ لا..." يقول عبد الله مبين٬رئيس قطاع "جينفيليي" التابع لجمعية العمال المغاربيين بفرنسا٬ منتفضا في وجه هذا الافتراض٬ مضيفا أن اسم السيد سماط "ظل يفرض نفسه بالضرورة لكونه محط إجماع بطبيعته٬ ولهذا الاعتبار تحديدا يشغل منصب عضو نشيط بمجلس إدارة جمعية العمال المغاربيين بفرنسا. بل إن السؤال هو ما مصير جمعية المنجميين السابقين بشمال فرنسا بعد السي عبد الله؟".

في أثناء ذلك٬ ظل السيد سماط٬ من وراء نظارتيه السميكتين٬ يتابع الحوار بابتسامة قبل أن يفاجئ الجميع بتساؤل فلسفي٬ وهو يسوي وضعيته على الأريكة :"أليس من الصواب التمسك بالكراسي؟ لكن من أنا؟من أكون؟ وما موضعي في نهاية المطاف؟".

لم يترك المتحدث فراغا للتفكير حين راح يذكر بذات الكلمات التي عبر بها ذات يوم من سنة 2009 حين تسلمه ميدالية "وسام الشرف" الفرنسية : "سوف أشرح لكم الأمر بكل بساطة. إن المسألة شبيهة بمنزل كبير يتضمن حجرات ومطبخا و حجرة للأكل. ولكن لابد للمنزل من رقم يميزه عن الآخرين٬ وما سماط إلا ذلكم الرقم٬ ولو أن الأهم هو المنزل في حد ذاته٬ و أعني هنا الجمعية بالنتيجة".

ولد عبد الله سماط في عائلة متواضعة بمنطقة أولوز (إقليم تارودانت) تتكون من خمسة إخوة٬ في بداية الأربعينيات٬ واضطر لاختيار سنة 1944 كسنة للميلاد بغية٬ كما يقول٬ "استمالة السيد مورا"٬ المشغل الرئيس بمناجم فرنسا آنئذ والذي لم يكن يقبل بأقل من ذوي 22 عاما.

وأردف أن والده٬ المتوفى في سنة 1968٬ عمل ما بوسعه "ليفرض علي ارتياد المدرسة القرآنية لكنني ما كنت أستشعر رغبة بذلك٬ وبعدما كلت جهوده٬ أرسلني إلى أخوي اللذين كانا يشتغلان بمنجم "إيميني" بنواحي وارززات ليفرضا علي عبثا نفس الأمر٬ ليقر قرارهما في آخر المطاف على إرسالي مجددا إلى بلدتي أولوز٬ لكن شريطة الحصول على دراجة هوائية". وكانت تلك بداية ترحال طويل أطلق فيها ساقيه ل"عود الريح" ملؤها هروب متكرر من البيت باتجاه تارودانت كمستخدم بإحدى معاصر الزيتون أو كبائع متجول للسمك انطلاقا من ميناء أكادير أو "كمتعلم" في إصلاح الدراجات بحي بنسركاو بأكادير.

ولم يهدأ بال الفتى حتى حصل ذات يوم من شتنبر 1963 على الكدمة-الشارة "التي طبع بها على صدري السيد مورا كغيري ممن كان مرغوبا فيه من ذوي العضلات من غير دماغ"٬ قبل أن يحط الرحال أخيرا بفرنسا "الإلدورادو٬ بلد الضوء والأنوار والأحلام والاستيهامات التي لا تنتهي."

حين بلوغ قعر الأرض "كان علي أن أبرهن٬ بحكم سني المبكر٬ للآخرين أولا عن اقتداري ورجولتي و أن أوفر دون ذلك ولو قليلا من المال من أجل عائلتي. لكن هيهات، بقدر ما نتحمل المعاناة٬ بقدر ما نألفها" ٬ يواصل السيد سماط بنبرة مريرة لا تخطئها الأذن.

وبعدما أمضى بضع سنوات على هذه الحال٬ عاد "السي عبد الله" ذات يوم إلى بلدته الأصلية حيث لم يتوان٬ إسوة برفاقه في المحنة آنذاك٬ عن استعراض ما ملكت يمينه من يسر٬ قبل أن يعود إلى ذات الحفرة من حيث خرج٬ في سنة 1967٬ بعاهة مستديمة في رجله اليمنى٬ كادت أن تودي به إلى الحتف٬ لولا الألطاف الإلهية.

عن هذه الواقعة المفصلية تحديدا٬ يشرح السيد سماط بلوعة ذات النار التي تحرق أحشاء جميع المنجميين :" لم أكن أفقه في خطاب النقابيين شيئا ولا كنت أرغب بذلك٬ بل هو أمر فرض علي فرضا. لقد أمضيت 22 شهرا طريح الفراش٬ وهاهم يقولون لي: عبد الله الباليزا!!".

وكمن يقطع حبل تفكير اتخذ بحكم الضرورة طبيعة شخصية٬ تدخل السيد عبد الله موبين ليؤكد من موقع الشاهد أن حالة السيد سماط "لم تكن فريدة أو معزولة على اعتبار أن الآلاف منهم تم التخلص منهم ليموتوا في صمت في البلد خلال سنوات 70 و 80 من القرن الماضي".

ولأنهم ظلوا بين فكي كماشة، بحكم موقعهم كمتعاقدين من جهة وظروف اشتغال تفرض عليهم أن يقوموا بأشد الأشغال خطورة، لم تتأخر هذه "الوجوه السوداء التي جرى اختيارها من ضمن الشباب الأميين، ما داموا كانوا يرغبون بعضلات من غير دماغ"٬ في طرح سؤال المصير والمآل، لينفجر أول إضراب بمنطقة "ألزاس لورين" في سنة 1980.

واليوم٬ بعد مضي 30 عاما عن إغلاق المفاحم بشمال فرنسا٬ مازالت جمعية المنجميين السابقين بشمال فرنسا ورئيسها على نفس النهج. " "إنهم يودون التخلص منا، لكننا لم ننس الطريقة غير الإنسانية التي شغلونا بموجبها"، هكذا ينتفض إبراهيم كمن يحكي باسم رفاقه القدامى الرواية المخنوقة لأجيال من الشباب، بعضهم عاد إلى أرض الوطن في سياق برنامج "العودة الطوعية" يعتبره الكثيرون صيغة ملطفة ل "محماد الباليزا !!".

ولا غرو، فقد أبانت تصريحات رئيس الجمعية عن تصميم لا يلين في أفق تحقيق مطالب المنجميين المغاربة بشمال فرنسا بما يضمن لهم حق مواءمة تعويضاتهم بما يتلقاه رفاقهم الفرنسيون و إحقاق تعامل مماثل في ما يرتبط بالامتيازات المتعلقة بحيازة السكن مثلا وتوسيع الحق في المداواة لاسيما بالنظر إلى مخلفات "السيليكوز" و العمل، وهذا هو الأهم، على التفكير في "مخطط اجتماعي ثان"، بالنظر إلى الفشل الذي مني به مخطط التسريح الأول للمنجميين.

كما عمدت الجمعية٬ انطلاقا من اشتغالها على موضوع الذاكرة المنجمية٬ إلى نشر كتابين (2008 و 2010) يتضمنان شهادات حول ذاكرة المناجم والمنجميين المغاربة بشمال فرنسا٬ فضلا عن تأطير لقاءات في ذات السياق مع الكاتب الفرنسي ريكاردو مونتسيرا٬ الذي أحرزت أولى إنتاجاته على ترخيص أولي بالتصوير بإحدى القنوات الفرنسية٬ في انتظار صدور روايته الثانية "حفارو القبور".

ولأنها باتت منشغلة بموضوع الذاكرة بعدما خبت جذوة العمل النقابي٬ فإن الجمعية ممثلة برئيسها لم تتخلف عن الحضور في عدد من المعارك النقابية وطنيا أو دوليا٬ كما لم تخف ميلها إلى الانتصار إلى الإبداع المنجمي كما يشير إلى ذلك دعمها لشريط "البحث عن الكرامة" من إخراج ماري بونار أو لعرض مسرحية "مذكرات منجمي مغربي في نور با دو كالي"٬ من إخراج جوزيت بروتون٬ نائبة رئيس جمعية المنجميين السابقين بشمال فرنسا.

في غضون ذلك٬ لا ينفك الحاج عبد الله سماط٬ عاشق "الرفيسة" التي ألف طعمها من يدي زوجته المراكشية التي دخل "من أجلها السجن اعتباطا في سنة 1973"٬ قبل أن يخلفا ثلاثة أولاد و بنتين٬ عن التشديد على نفس المطلب٬ نفس النداء:"باسم جميع رفاقي ممن ماتوا ضحايا وقرابين للفحم٬ لا تنسوا المنجميين المغاربة بفرنسا حتى لا يعانوا نفس ما كابده قدماء المحاربين من ظلم وضيم".

17-12-2012

المصدر/ وكالة المغرب العربي للأنباء

مختارات

Google+ Google+