يوما بعد يوم تزداد حيرة الحكومة النمساوية بعد أن أقدمت مجموعة من طالبي اللجوء بالنمسا باحتلال كنيسة فوتييف كيرخا مطالبة بتغييرات جذرية في قوانين اللجوء للنمسا. يوما بعد يوم تتفاقم قضية الاحتلال خاصة بعد أن فشلت جميع الأطراف في الوصول لحل، سيما وقد أعلنت الحكومة ممثلة في وزيرة الداخلية قفل باب التفاوض بعدما فشل الطرفان الوصول لأي نتيجة ازدياد عدد المحتلين المضربين عن الطعام. وتقف الشرطة عاجزة تراقب الموقف إذ يمنعها القانون عن اقتحام الكنيسة. من جانبها لا تزال منظمة كاريتس الخيرية المسيحية تسعى لتقريب وجهات النظر دون نجاح يذكر، فيما تتبادل الأحزاب السياسية الاتهامات بسبب مواقفها من قضية الاحتلال التي تحولت لقضية هي الأولى من نوعها بالنمسا. قضية تراقبها دول الاتحاد الأوروبي بكل الحذر والقلق خاصة أن قانون اللجوء أصبح موضع نقاش ليس في النمسا وحدها.
تعتبر كنيسة فوتييف واحدة من أهم المزارات الدينية والسياحية بالعاصمة فيينا إذ يعود تاريخ إنشائها لعام 1897 كما تمتاز بطابع معماري «الغوطي الجديد» المميز ليس في النمسا فحسب بل عالميا. وبينما يقف مبناها شامخا على بعد خطوات من جامعة فيينا وبضعة أمتار فقط من قصر الهوفبورغ الرئاسي تقف الحكومة النمساوية عاجزة تماما ومحرجة أمام مشكلة تفاقمت ولا تزال بعد أن انضمت أسر وأطفال للمحتلين ووصل عددهم إلى 100 منهم 40 دخلوا في إضراب عن الطعام حتى أول من أمس مما أدى لنقل من تدهورت حالتهم الصحية بصورة خطرة إلى المستشفيات.
يطالب المعتصمون (وتعود أصولهم لجنسيات مختلفة) بضرورة تحسين الظروف المعيشية كما يطالبون بظروف رعاية أفضل بالمعسكرات التي خصصتها الحكومة النمساوية لاستقبال وإقامة اللاجئين خاصة المعسكر القديم الأكبر شديد الازدحام المعروف باسم «ترايسكيرخن» الواقع بإقليم النمسا السفلى على بعد 20 كيلومترا من العاصمة فيينا. وترفض أقاليم أخرى اقتسام حصص اللاجئين، إضافة لذلك تأتي في مقدمة مطالب المعتصمين ضرورة الإسراع في النظر في طلباتهم والسماح لهم بحق العمل أثناء فترة الانتظار كما يتمسكون بأهمية إزالة ومسح بصماتهم في حال رفضت النمسا منحهم حق اللجوء مما يمكنهم من محاولة التقديم لطلب لجوء في بلد أوروبي آخر من دول منظومة الاتحاد الأوروبي.
من جانبه قال الباكستاني محمد النعمان، 24 عاما، في حديث لوسائل الإعلام إنهم يطالبون بحق اللجوء والحرية في الانتقال، مؤكدا أن منحهم مبلغ 150 يورو في الشهر لا يكفي لشيء، مطالبا بفتح أبواب الكنيسة لكل من يريد دخولها حتى يرى الناس الظروف التي يعيشونها وهم يفترشون الأرض في درجة حرارة سجلت بالأمس تحت الصفر.
وكما أشار معتصم آخر يجيد الألمانية فإن المعتصمين اختاروا الكنيسة باعتبارها بيتا من بيوت الله خاصة أن القانون يمنع الشرطة كما يمنع غيرها من طرد أي فرد يحتمي بكنيسة ما لم يشتك القائمون على إدارة الكنيسة وهذا ما لا يتوقعونه.
من جانبها أوكلت السلطات الدينية العليا لمنظمة «كارتيس» الخيرية المسيحية محاولة فك الاشتباك مع المحتلين فبادرت عارضة عليهم الانتقال إلى سكن مؤقت أكثر دفئا خاصة أن كنيسة فوتييف على الرغم من أهميتها إلا أنها كغيرها من الكنائس غير مدفأة. وعلى الرغم من برودة الطقس وسوء الظروف يرفض المحتلون العرض خشية أن تصطادهم الشرطة وتسارع لاعتقالهم وإعادة احتجازهم خارج عتبة باب الكنيسة.
في سياق مواز كانت وزيرة الداخلية، يوهانا ميك لايتنر، قد التقت بوفد من المحتلين كما تواصلت المفاوضات دون الوصول لاتفاق مما دفع الوزيرة، للإعلان عن قفل باب التفاوض، مشيرة إلى أن التغييرات التي يطالب بها المحتلون غير ممكنة في معظمها، واعدة بإدخال التحسينات المعيشية الممكنة بالمعسكرات معبرة في الوقت ذاته عن استيائها لمواصلة الاعتصام خاصة أن الأمر تحول إلى أزمة آخذة في الكبر يوما بعد يوم مع إصرار المحتلين على البقاء وتمسكهم بالإضراب عن الطعام مكتفين بالماء. بعضهم هدد بأن المشكلة يمكن أن تستمر لشهور غير مستبعد استمرارها لسنوات في حال انضمت لهم جماعات جديدة.
قضية احتلال الكنيسة وفيما يبدو احتلت النمسا بأثرها إذ تتصدر أخبارها وسائل الإعلام، كما احتلت أجندة البرلمان حيث تتبادل أحزابه الاتهامات بشأنها، فيما انقسم الرأي العام حول مؤيد ومعارض. ويتقدم أولئك المتعاطفون من يرى أن النمسا دولة غنية تجبرها القوانين الدولية الراعية لحقوق الإنسان على ضرورة تقديم كل ما يمكنها من مساعدات لمواطني دول أخرى اضطرتهم ظروف سيئة ببلادهم للهجرة بحثا عن ظروف أفضل. حتى ولو كانت الأسباب الحقيقة التي تدفع بهم للجوء ليس سياسية وإنما اقتصادية باعتبار أن الأزمة قضية إنسانية يجب أن تتعاون الحكومات جمعاء في حلها وفي مقدمة هؤلاء يأت بعض النشطاء من حزب الخضر النمساوي.
عكس هذه المواقف المؤيدة تعلو أصوات متطرفة تؤمن إيمانا قاطعا أن الحكومة النمساوية مسؤولة فقط عن رفاهية مواطنيها وأن النمسا للنمساويين وليس لآخرين. ومن بين هؤلاء المتشددين هناك جماعات تطالب بتضييق باب اللجوء جملة وتفصيلا وعدم التسامح مع اللاجئين منادية بتشديد قوانين اللجوء وألا يمنح حق اللجوء والعيش بالنمسا، وبالتالي الاستمتاع بما توفره الحكومة النمساوية لمواطنيها من تأمين صحي وتعليم مجاني ومساعدات شهرية للمواليد وإعانات شهرية لمن ينقطعون عن العمل وخدمات معاشية منتظمة، إلا لطالبي اللجوء. ويصف هؤلاء ما يحدث بالكنيسة بالفوضى وأنه تردد حكومي يعيق اتخاذ قرار حازم يفض احتلال يصفونه بالأجنبي، مطالبين بطرد المحتلين بدعوى أنهم جماعة تستغل وتبتز وتضغط باللجوء إلى الإضراب عن الطعام.
بدورها لم تغفل أطراف أشد حنقا التساؤل بأصوات عالية إن كان ما يحدث بالنمسا ممكن حدوثه واستمراره لفترة من الزمن في أي دولة أخرى ناهيك عن تلك التي فر منها اللاجئون. هذا ويتزايد وسط هؤلاء عدد من يخشون أن تتدهور الأزمة إلى أسوأ، خاصة بعد اتهامات تقول إن نشطاء متطرفين راديكاليين وصلوا من ألمانيا ودول جوار واندسوا وسط المعتصمين وأصبحوا يبحثون عن كل الثغرات القانونية ويحركونهم ويدعمونهم لمزيد من التطرف وعدم التنازل ورفض أي وعود ما لم تستجب الحكومة النمساوية استجابة كاملة لمطالبهم جميع.
وأعلن أعضاء من حزب الطريق للحرية اليميني أنهم بصدد رفع قضايا قانونية ضد أولئك اللاجئين بدعوى أنهم يهددون الأمن وسلامة الحياة. من جانبها تكثف جهات دينية من محاولاتها لكل الإمكانات المتوفرة لفك الاعتصام سلميا حتى لا تتدخل الشرطة مما يسئ لسلطتها الدينية وبالتالي الاجتماعية، بينما تتصاعد حدة أخبار تشير لتصاعد غضب المحتلين حتى من منظمة كارتيس ممثل الكنيسة ورفضهم لكل الحلول التي عرضتها عليهم حتى اللحظة.
16-01-2012
المصدر/ جريدة الشرق الأوسط