يمور بولجاكوف، مهاجر مسلم من أوزبكستان، وفد قبل 10 سنوات إلى موسكو، ليعمل صبيا مراسلا في إحدى الشركات، إلا أن هذا الفتى العصامي، البالغ من العمر 28 عاما، والحاصل على درجتين جامعيتين، وحزام أسود في الكاراتيه، أصبح يمتلك شركة إنشاءات مزدهرة الأعمال، وأصبح مثالا يحتذى للمهاجرين من قوميات أخرى إلى روسيا.
موسكو القديمة، التي تقطن فيها أعداد هائلة من القوميات السلافية، بدأت تفسح المجال لقوميات أخرى، لتصبح مدينة متعددة الأعراق، يجد فيها المسلمون من آسيا الوسطى أيضا موطئ قدم، والذين يمثلون القطاع الأسرع نموا من السكان، وصار وجه موسكو يتغير باستمرار مع ارتفاع أعدادهم، وارتقائهم السلم الاجتماعي، واضطلاعهم بمهام أكثر وضوحا في المجتمع الروسي.
وأصبحت النساء، اللاتي يرتدين الحجاب في طريقهن إلى أسواق المدينة، من المشاهد العادية هذه الأيام، وازداد أيضا عدد الرجال المسلمين الملتحين في قلانسهم الرياضية، الذين يزينون سياراتهم بالآيات القرآنية، إلا أن العديد من المسلمين هنا غير ملتزمين بمشاعر دينهم، ويلبسون مزيجاً من ملابس قومياتهم والملابس الأجنبية، على الرغم من أن سحنتهم السمراء، ولكنتهم الغريبة، وعاداتهم الأجنبية، كثيرا ما تثير استهجان السكان الأصليين، وفي الوقت ذاته، تكتظ مدارس العاصمة بأطفالهم، الذين ولد بعضهم وترعرع في ربوع موسكو.
هجرة وانفجار سكاني
وفقا لتقديرات سلطات الهجرة الاتحادية الروسية، وصل نحو 9.1 ملايين أجنبي إلى روسيا، عام 2011، من أجل العمل، أكثر من ثلث هؤلاء المهاجرين جاء من أفقر ثلاثة بلدان في آسيا الوسطى، التي كانت في يوم من الأيام جزءا من الاتحاد السوفييتي السابق، نحو مليونين جاءوا من أوزبكستان، ومليون من طاجكستان، وأكثر من 500 ألف من قيرغيزستان، ويعتقد الخبراء المحليون أن عدد الوافدين من دول آسيا الوسطى تضاعف مرتين على الأقل، وأن مئات الآلاف من الآسيويين الأوسطيين حصلوا بالفعل على جوازات سفر روسية، وأصبحوا خارج تغطية رادار خدمات الهجرة. وظلت هجرة مواطني دول آسيا الوسطى، هي القوة الدافعة لزيادة عدد السكان المسلمين في روسيا ليصل عددهم الى أكثر من 20 مليون نسمة، بعد أن كانوا 14 مليوناً قبل 10 سنوات. ويقول وزير العرقيات السابق، والمستشار الرئاسي الحالي للسياسات الاثنية، فياتشيسلاف ميخائيلوف، إننا «نقف اليوم على شفا حفرة من الانفجار الديمغرافي القوي، وهي الهجرة الكبيرة، المماثلة تماما لتلك التي حدثت في القرون الميلادية الأولى».
ومن المتوقع أن يمثل المسلمون 19٪ من عدد سكان روسيا، بحلول عام 2030، مقابل 14٪، كما هي الحال في الوقت الراهن، من معدل السكان البالغ تعدادهم 142 مليون نسمة، وفقا لتقرير مجلس الاستخبارات الوطني الأميركي، عن الاتجاهات العالمية، الذي تم نشره هذا الشهر. ويمضي التقرير قائلا إن «التحدي الديموغرافي في روسيا يمكن مواجهته بدمج القوميات المسلمة المتنامية بسرعة، وذلك للتعامل مع تقلص عدد السكان الروس الأصليين»، ويضيف أن هذا المزيج العرقي «يبدو بالفعل مصدرا للتوترات الاجتماعية المتزايدة». ووفقا لأكثر التقديرات تحفظا، فإن ما يصل الى مليوني مسلم يعيشون الآن في موسكو، وهي المدينة التي يبلغ عدد سكانها ما يقرب من 12 مليون نسمة.
محنة المهاجرين
وتظهر استطلاعات الرأي أن ما يقرب من 50٪ من الروس، لا يحبون المهاجرين من آسيا الوسطى والقوقاز الروسيين، الذين يشكلون مصدرا آخرا لهجرة المسلمين داخل البلاد، ولأنهم أصبحوا يمثلون «البعبع» المخيف للقوميين الروس، الذين يتهمونهم بسرقة الوظائف، وتشكيل العصابات العرقية، وعدم احترام العادات الروسية.
يقول ديمتري دمشكين، وهو من قدامى المحاربين الروس، ومن النازيين الجدد، ويرأس حزبا قوميا «إذا قمت ببناء مسجد في وسط مدينة موسكو، وذبحت الخراف في مناسباتك الدينية، وفرضت علينا تقاليدك، فلا أحد يريدك هنا جارا له».
اكتسح العمال المهاجرون من آسيا الوسطى، منذ سنوات عدة سوق الوظائف الدنيا، إذ يشتغلون بالأعمال الرخيصة وأعمال نظافة الشوارع، وعمال بناء وسائقي سيارات أجرة غير مرخصة، وتعرف سياراتهم المتهالكة شعبيا باسم «تاكسي الجهاد»، ويعيش العديد منهم بمقطورات في مواقع البناء، وفي الطوابق السفلية القذرة والمكتظة والفنادق الرخيصة، أو ينامون داخل سياراتهم، وقد جعل هذا الوضع، غير المستقر قانونيا، العديد من العمال المهاجرين عرضة للإساءة والاستغلال من أصحاب العمل، كما أصبحوا أيضا ضحية للهجمات المعادية للأجانب.
إلا أنهم في السنوات الأخيرة، أصبحوا على نحو متزايد أعضاء في القوى العاملة أكثر رسوخا، مثل بولجاكوف، الذي يدير الآن أعماله الخاصة بنجاح منقطع النظير.
أيضا هناك رجل الأعمال دون منازع، وهو من العرقية الأوزبكية، اليشر عثمانوف، وهو من الشخصيات القادمة من آسيا الوسطى، ويعمل بمجال التعدين والاتصالات والإنترنت، وهي الأعمال التي جعلت منه واحدا من أغنى أغنياء روسيا، بثروة تقدر بنحو 18.1 مليار دولار، وهو شريك في ملكية نادي أرسنال البريطاني لكرة القدم.
أيضا هناك مخرج الأفلام، تيمور بيكمامباتوف، الذي ولد في كازاخستان وتلقى تعليمه في أوزبكستان، والذي أخرج بعض الأفلام الروسية الأكثر ربحا، انتقل أخيرا إلى هوليوود، وأخرج هذا العام فيلم أبراهام لينكولن: صائد مصاصي الدماء، وأخرج قبله فيلم «المطلوب»، وهو فيلم إثارة في 2008، بطولة النجمة أنجلينا جولي.
وكتب الأوزبكي الأصل، ميرزا كريم نوربيكوف عشرات الكتب الأكثر مبيعا، عن العلوم الطبية لعلماء المسلمين في القرون الوسطى، مثل ابن سينا، الذي ولد في ما يعرف الآن بأوزبكستان، ومركز التدريب الطبي الذي يمتلكه في موسكو يفرض رسوما بمئات الدولارات، نظير تلقي دورات قصيرة في الاستشفاء.
وعلى الرغم من أن تدفق مواطني آسيا الوسطى تسبب في الكثير من الاحتكاكات، فهناك أيضا دلائل كثيرة تشير إلى أن الموسكويين غير المسلمين اعتنقوا أيضا تقاليد ينظر إليها البعض على أنها من صميم عادات آسيا الوسطى، مثل المطاعم الأوزبكية، المخابز المصنوعة من الطين التي تصنع الكعك المسطح، وفطائر اللحوم، إذ أصبحت هذه التقاليد في كل مكان، وأضحت الموضة هي الأوشحة الحريرية الرياضية الشرقية و(الباشميناز) الذي يشبه الحجاب، ودرجت العديد من ربات البيوت من العرقية الروسية على شراء اللحم الحلال، معتبرات إياه صحياً وخالياً من المواد الحافظة الكيميائية، ويبدو أن هذا الاتجاه له جذور عميقة في التاريخ الروسي، فعلى العكس من معظم العواصم الغربية الأوروبية، استوعبت موسكو المسلمين داخل سكانها منذ قرون عدة.
ماضٍ وحاضر إسلاميان
ظهرت إمارة موسكو كقوة إقليمية منذ نحو 700 سنة خلت، عندما سيطرت القبيلة الذهبية، وهي عبارة عن دولة يسيطر عليها المغول والتتار المسلمون، وفرضت هيمنتها على أجزاء ما يعرف الآن بجنوب روسيا، والقوقاز، وآسيا الوسطى، وعندما استولت موسكو على أراضي القبيلة الذهبية، وغزت البلاد التي دانت للعرب والفرس والأتراك، أصبح النبلاء المسلمون جزءا من النخبة الروسية، وأصبح المسلمون أحراراً في ممارسة شعائرهم الدينية، تحت حكم القياصرة.
وكتب الروائي، فلاديمير نابوكوف، بفخر واعتزاز أن عائلته الأرستقراطية تنحدر من نبق، وهو الابن غير الشرعي لجنكيز خان. أما المؤلف الموسيقي سيرجي رحمانينوف، والملحن والكاتب، ميخائيل بولجاكوف فينحدران من نسل النبلاء التتار. يقول المسلم المتدين، وعضو الغرفة العامة، التي تقدم المشورة للكرملين في القضايا الاجتماعية، فلادلين بوكوف، أن «المسلمين ليسوا قادمين جدداً هنا، وجميع المشكلات الحالية هي مؤقتة».
ومسلمو آسيا الوسطى بعيدون كل البعد عن كونهم مجموعة متجانسة، إذ إن القيرغيز يفخرون بتراثهم البدوي المسلح، في حين أن الأوزبك والطاجيك يمجدون ثقافاتهم، التي أنتجت الشعراء والعلماء، الذين أسهموا في الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى.
المسلمون والتأثيرات المختلفة
انتهت الجيوش القيصرية من غزو آسيا الوسطى، في أوائل القرن الـ20، وجاءت الستالينية لتطهر النخب الخاصة، وأعادت الحقبة السوفييتية تشكيل اقتصاداتها وزراعتها، وجعلت من «الروسنة»، نسبة إلى روسيا، مفتاح النجاح لأجيال عدة، لتقديم أفضل ما لديها. وفي ثمانينات القرن الماضي، أصبح المجندون من آسيا الوسطى، يشكلون الأغلبية في الجيش السوفييتي وهو الوقت الذي تراجعت فيه معدلات المواليد بين الروس الأصليين. وحاول شيوعيو موسكو الفوز بتعاطف آسيويي الوسطى، واجتثاث تقاليدهم الاسلامية، عن طريق بناء المدارس والجامعات، ولايزال خريجو هذه الصروح التعليمية يتم تأهيلهم للعمل موظفين في البنوك ومهندسي تقنية معلومات، وفنانين، وأطباء في روسيا، وكثيرا ما يثني عليهم أرباب العمل، بفضل طموحاتهم وجهودهم الوظيفية الجادة، وعدم تناولهم الكحول، آفة روسيا.
وأعقب انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، انهيار اقتصادات الجمهوريات المكتظة بالسكان، بسبب الإصلاحات الاقتصادية غير الفعالة، والاضطرابات السياسية، والعودة للتقاليد الإسلامية والفقدان التدريجي للعقلية السوفييتية، إلا ان عدد الناطقين بالروسية لايزال مرتفعا، ويمكنهم السفر إلى روسيا دون تأشيرة، والبقاء فيها لمدة تصل إلى ثلاثة أشهر، أو لفترة أطول، إذا حصلوا على تصاريح عمل أو إقامة.
21-01-2013