من أعظم مفكري الأندلس، إسبانيا الإسلامية، وجهابذة الطب والفلسفة في القرن الثاني عشر: المسلم ابن رشد واليهودي ابن ميمون، وما زال صدى أنموذجهما في التعايش المشترك يتردد وبقوة حتى اليوم داحضاً نظرية صراع الحضارات، كما يبرز فيلم جاكوب بندر الوثائقي "الخروج من قرطبة"، الذي يطلعنا عليه لويس غروب.
الخروج من قرطبة" فيلم وثائقي عن فصل كبير ومجهول من فصول التاريخ الأوروبي، ألا وهو: تاريخ إسبانيا المسلمة.
ولمدة تزيد على 800 سنة كانت أجزاء واسعة من شبه جزيرة أيبيريا، إسبانيا حالياً، تحت الحكم الإسلامي. وحتى يومنا هذا يعتبر زمن الأندلس، كما يسميها المسلمون، حقبة سادها التسامح، وعاش فيها اليهود والمسيحيون والمسلمون معظم الوقت بسلام معاً تحت لواء "العيش المشترك" (Convivencia).
عاصمة الأندلس كانت مدينة قرطبة، التي شكّلت مركزاً ثقافياً واقتصادياً رائداً للبحر الأبيض المتوسط والعالم الإسلامي ككل.
وفي فيلم "الخروج من قرطبة " Out of Córdoba، الذي أُطلِق عام 2010، ويمكن شراؤه في مؤسسات تعليمية عبر الولايات المتحدة، يدحض جاكوب بندر، مخرج الأفلام الوثائقية، اليهودي الأمريكي، فكرة صدام الحضارات من خلال إبراز روح التسامح في قرطبة ومتابعة حياة فيلسوفين من القرن الثاني عشر: المسلم ابن رشد واليهودي موسى بن ميمون.
استذكار التاريخ
وكما يشرح بندر في بداية فيلمه، بعد الهجمات الإرهابية على مدينة نيويورك، شعر بالحاجة إلى اكتشاف أمل ومثالية جديدين كأسلوب لدحض نظرية الصِدام.
ومن خلال استذكار التاريخ بروح ابن رشد وموسى بن ميمون، تُظهر رحلة بندر الشخصية، المفعمة إلى درجة ما بالأمل، أن التسامح والفكر الحر، تاريخياً وحديثاً، يمكنهما المساعدة على رأب حتى الفجوات الأكثر عمقاً بين الناس.
كان موسى بن ميمون وابن رشد فيلسوفين وعالمين قانونيين وطبيبين ومن أتباع أفكار أرسطو طاليس والمدافعين عن الفكر المنطقي الحر.
في الفيلم الوثائقي يذهب المخرج بندر إلى قرطبة الحديثة، ويقتفي الفيلم أثر بندر وهو يقابل أناساً ألهمتهم روحا الرجلين، ومنهم إمام يقرأ فتوى ضد أسامة بن لادن، تصفه بالكفر بسبب جرائمه العنفية.
ويتحدث بندر كذلك إلى وزير الخارجية الإسباني ميغيل أنجيل موراتينوس، الذي يقول إن موسى بن ميمون وابن رشد يشكلان تعبيراً عن عمله كدبلوماسي.
فهاتان الشخصيتان تمثلان مثالين تاريخيين، كما يشرح موراتينوس، على أن تعايش اليهودية والمسيحية والإسلام لا يؤدّي في نهاية المطاف إلى النزاع والمواجهة، وإنما يمكن أن يكون إلهاماً متبادلاً لبلوغ إنجازات ثقافية متميزة.
المشاهد للفيلم يتتبع بندر وهو يستذكر الرحلات التاريخية لموسى بن ميمون وابن رشد عبر منطقة البحر الأبيض المتوسط، ويتجه بندر إلى المغرب حيث يقابل أندريه أزولي، وهو مواطن يهودي ومستشار كبير لملك المغرب.
الدين كجزء من حل النزاعات
يتكلم أزولي عن الحوار الثقافي ويؤكد على الحاجة الملحّة لأن ننصت إلى رسالة التسامح لكلا هذين الشخصين من قرطبة. "علّمنا موسى بن ميمون، نحن اليهود، أن نجعل يهوديتنا وسيلة للتسامح، وليس أداة عقائدية تجد الأصولية فيها ملجأ لها"، يقول أزولي. ويضيف: "يمثل ابن رشد في العالم الإسلامي نفس هذا المنطق وهذه العقلانية".
إحدى أكثر اللحظات عاطفية في الفيلم هي عندما يقوم بندر بمقابلة الحاخام أريك أشرمان في القدس. يقول بندر إنه في البداية لم يرَ أي مناسبة يُدخِل من خلالها السياسة المعاصرة في فيلم عن موسى بن ميمون، لكنه يضيف: "إلا أن جهود الحاخام أشرمان لتحقيق المصالحة اليهودية الإسلامية، عن طريق العودة إلى التقاليد الدينية اليهودية وموسى بن ميمون، بدت وكأنها تقترح غير ذلك".
السير على خطى ابن رشد وابن ميمون
"أحد الأشياء التي علّمنا إياها موسى ابن ميمون هو أنك لا تستطيع دفن رأسك في الرمل. لا تستطيع تجنب القضايا الصعبة"، كما يقول الحاخام أشرمان. ويضيف: "يتوجب عليك مواجهتها وجهاً لوجه. يتوجب علينا حل النزاعات التي تواجهنا. ويتوجب علينا إيجاد طريقة لرؤية صورة الله تعالى في إخواننا وأخواتنا المسلمين".
تتلخص وجهة نظر الحاخام أشرمان في أنه يتوجب قلب الوضع الراهن رأساً على عقب، وجعل الدين جزءاً من الحل في النزاع الإسرائيلي الفلسطيني.
يصف الحاخام، بصوت يرتعش من الغضب والهيجان، الظلم والعنف الذي يسلَّط على العديد من الفلسطينيين حين تدمِّر الجرافات منازلهم في المناطق المحتلة، مثلاً.
كما يصف منظمته "حاخامات من أجل حقوق الإنسان" على أنها "ضمير إسرائيل"، ومكان يقوم فيه الحاخامات بالعمل من أجل حقوق مواطنيهم الفلسطينيين في إسرائيل والفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
الكلمة الأخيرة في الفيلم تذهب إلى ديفيد بارِل وهو أستاذ دين مسيحي، يؤكد أن ابن رشد وموسى بن ميمون كانا رائدين في بحثهما الناقد لعقيدتيهما، وانخرطا في تقاليد دينية لم تكن لهما أصلاً.
في نهاية المطاف، وبعد السير على خطى ابن رشد وموسى بن ميمون، ورؤية أولئك الناس في عصرنا الحاضر الذين ما زالوا مُلهَمين إلى حد بعيد بهاتين الشخصيتين، ينظر بندر إلى صورة القدس، تلك المدينة التي أصبح اسمها مرادفاً للخلاف الإنساني، ويقول إنه في نهاية رحلته، لا يسعه إلا أن يواصل تلقي الإلهام ليبقى مؤمناً بوجود بدائل لصدام الحضارات وبإمكانية المصالحة بين الديانات.
1-02-2013
المصدر/ موقع قنطرة