أمهلتني ضابطة الجوازات في مطار تبليسي، قليلا ثم استدعت زميلا لها أرفع رتبة. وتفحص الضابط الثاني جوازي سفري، ثم سألني عن جنسيتي الأصلية، بسبب موطن الميلاد وهدفي من زيارة جورجيا.
كان الدافع وراء رحلتي إلى جورجيا ما راج طوال العامين الماضيين في مصر عن أن "جورجيا توزع تأشيرات".
ففي القاهرة تجد الطوابير المصطفة طويلة أمام سفارة جورجيا في حي المهندسين بالقاهرة، إذ إن الشروط يسيرة: حساب مصرفي به ما لا يقل عن 25 ألف جنيه مصري (حوالي أربعة آلاف دولار)، وجواز سفر ساري المفعول.
وتدفق الآلاف على السفارة، غالبيتهم من المصريين الأقباط، حاملين معهم أموالهم وأحلام الثراء والحرية. لكن كثيرا من المتقدمين لم يعرفوا إلى أي جهة سيذهبون، جورجيا الأمريكية أم جورجيا القوقازية؟
ولا يختلف الضجيج والفوضى في تبليسي كثيرا عن القاهرة. في مقهى كايرو المتفرع من شارع أغماجان فيلي سألت النادل ممدوح، الذي لم يعد يطيق الحياة هنا، ما الفارق بين جورجيا ومصر؟ فرد بتأفف "زي مصر بالضبط ولكن على صغير".
لا توجد تقديرات رسمية لعدد الأقباط الذين سعوا للهجرة إلى جورجيا، أو جربوا حظهم هناك، لكن مصادر الكنيسة تتحدث عن 150 ألفا على الأقل، الغالبية العظمى منهم من الموسرين الذين حملوا معهم أموالهم وأحلامهم إلى الدولة القوقازية التي يبلغ تعداد سكانها قرابة الأربعة ملايين ونصف المليون نسمة.
بوسط تبليسي الحديثة يحكي عاطف، وهو سمسار عقارات قادم من الأسكندرية "كان الآلاف يأتون إلى جورجيا أسبوعيا، فشغلت الخطوط الجورجية رحلة مباشرة من القاهرة إلى تبليسي، تقل كل رحلة 150 شخصا على الأقل، وبحسبة بسيطة كان كل واحد منهم قادما بعشرة آلاف دولار على الأقل، معظمها طار في الهواء" .
ومنحت السلطات الجورجية تسهيلات للمستثمرين القادمين، فمنحتهم إقامات فورية لمدة عام على الأقل، وسهلت تراخيص الشركات وتسجيلها وشراء العقارات، لكنه وضع لن يدوم.
عاطف واحد من النماذج القليلة الناجحة في جورجيا، وهو يجري مفاوضاته بحسم رجل الأعمال الصارم.
تمتلئ شوارع تبليسي بلافتات المحلات والمقاهي والشركات المكتوبة باللغة العربية.
يقول عاطف "من جاءوا من مصر إلى جورجيا شعروا أنهم وصلوا إلى أوروبا، لكن القادمين من أوروبا يشعرون أنهم جاءوا إلى الأرياف".
في مقابل عاطف التقيت بالكابتن أمير نجيب، الذي درس الهندسة البحرية في مصر وأوروبا، وقدم إلى جورجيا قبل عام، وهو يقضي وقته متجولا بين المقاهي مستمتعا بالحرية التي لم يجدها في مصر، على حد قوله.
"أسعى للحصول على جواز سفر بلد محترم، لكي أتمكن من الحياة باحترام في بلدي وخارجها، لكن عائلتي تعتقد أن كل الأموال التي حملتها معي أنفقتها على المتعة والترفيه، كيف أنجح في بلد لم ينجح فيه أحد؟".
تغير الحال
مع بداية العام الجاري بدأت الحكومة الجديدة في تبليسي تغيير سياستها إزاء المهاجرين العرب، فطبقت قواعد صارمة تمنع بيع الأراضي الزراعية لغير الجورجيين. ولأن معظم المهاجرين الجدد ضخوا استثماراتهم في هذا القطاع الرخيص، فقد تعذر عليهم التصرف في ممتلكاتهم. ثم كانت الخطوة الثانية هي رفض تجديد إقامات الغالبية العظمى منهم.
وعلى الطرف الآخر من تبليسي توجهت للقاء أرتو، وهو واحد من أشهر الوسطاء الجورجيين في ترتيب أوضاع القادمين من العالم العربي.
يقول أرتو، "في البدء جاء الأقباط هاربين من الأوضاع في مصر، وعرف العراقيون فجاؤوا بعدهم، وبعدهم جاء السوريون، والآن يأتي السعوديون، الذين لديهم وفرة مالية لشراء أراض وعقارات رخيصة هنا".
تمتلأ شوارع تبليسي بالإعلانات واللافتات المكتوبة بالعربية لمطاعم وشركات سياحة وسفر، تتخصص في استقدام الطلاب القادمين من العراق وسورية، أو الترويج لفرص استثمار للهاربين من جحيم الحرب في البلدين.
لكن أرتو يقول إن الحكومة الراهنة ترفض 99 في المئة من طلبات إقامة القادمين "لا توجد قواعد واضحة، أو القواعد تتغير باستمرار".
في شارع مارجونش فيلي الشهير التقيت بثلاثة عراقيين، أحدهم قدم منذ سبعة أشهر بعد رحلة لجوء إلى سورية، وأنفق عشرة آلاف دولار لإقامة معمل للحلويات، لكنه قرر الآن المغادرة "نصيحة لأي أحد، ماكو بيزنس في جورجيا، راح ارجع أعوف جورجيا".
اتصلت بالخارجية الجورجية فرفضت التعليق على ما يحدث مع المهاجرين العرب، واتصلت بالسفارة العراقية، وهي البعثة العربية الوحيدة في تبليسي طالبا لقاء مع القنصل فوعدني بمقابلة ثم امتنعوا عن الرد في الموعد المحدد.
"لاهوت الهجرة"
تبرر جهات قبطية تلك الهجرة بالأوضاع الضاغطة التي خلقتها التغيرات السياسية بعد 25 يناير 2011. لكن هناك من يشكك في تلك المزاعم، مبررا ذلك بأن من هاجروا هم القادرون والموسرون، وليس المضطهدين.
من هؤلاء الباحث سليمان شفيق، الذي درس في جورجيا، وعاد إليها في العام الماضي لإجراء دراسة عن المهاجرين الأقباط هناك. توجهت للقائه في مكتبه بجريدة "وطني".
يوضح شفيق قائلا إن "من تقدموا بطلبات للهجرة إلى جورجيا 200 ألف، أما الذين سافروا لاكتشاف الموقف فهم 102 ألف، ومن استقروا لفترة هناك 46 ألفا".
منحت السلطات تسهيلات للمستثمرين القادمين، فأعطتهم إقامات فورية لمدة عام.
ويصر على أن حلم الهجرة ليس حالة قبطية وفي رأيه أن اثنين من كل ثلاثة مصريين يرغبون في الهجرة وسيفعلون لو أتيحت لهم فرصة.
لكنه يلمح إلى جانب آخر في قضية الهجرة إلى جورجيا، وهو ترويج جهات محددة لهجرة الأقباط الموسرين.
ويقول: "هناك لاهوت يسمى لاهوت الهجرة، يقول إن جورجيا مسيحية أرثوذكسية مثلنا، لكن الحقيقة أنهم يتوجهون إلى هناك، ويستثمر الواحد منهم قرابة 20 ألف دولار للتوجه منها إلى الاتحاد الأوروبي، كم قبطي تعرفهم يمتلك هذا المبلغ؟ يؤسفني أن أقول أن معظم الكنائس الكبرى بها إعلانات لتسهيل الهجرة وتساعد من يريد الهجرة. هناك شركات متخصصة ومراكز متخصصة، لتجريف الأقباط القادرين والموسرين".
لكن القمص دكتور بيشوي حلمي رئيس مجلس كنائس مصر ينفي أي دور للكنائس في هذه الموجة، ويؤكد أن الآلاف الذين هاجروا، وعددهم حسب التقديرات مئة ألف، فروا خوفا من الاضطهاد الديني وطلبا للأمان.
سألته ما الرسالة التي توجهها الكنيسة لشعبها في هذه الحالة؟
يقول: "الكنيسة تنصح رعيتها بالبقاء ولا تشجع على الهجرة في أي عصر من العصور، لكن عندما رأت أن جزءا من شعبها هاجر للخارج، قدمت لهم الخدمة لكي لا تتركهم دون رعاية روحية أو كنائس".
معظم الأقباط الذين هاجروا إلى جورجيا عادوا إلى مصر، وقد خسروا الكثير من استثماراتهم، وبعضهم غادر إلى دول أوروبية أخرى، لكن ملف الهجرة لا يزال مفتوحا خاصة أمام الحالمين بالحرية أو الثروة، عندما يتجدد التوتر في بلدانهم.