تجتمع في رمضان الأسر على مائدة الإفطار وتحيي فيه الطقوس الدينية، والعادات والتقاليد، في حين قد يجتمع في بيت آخر أناس جمعتهم آصرة العلم والمعرفة بعيدا عن الأهل والوطن.
هم فتية هاجروا لطلب العلم، كلهم عزيمة وإصرار لحمل إرث الأنبياء، بذلوا الجهد والمال والوقت لتحصيل العلم الشرعي، واختاروا المغرب وجهة لتلقي علوم الفقه والحديث.
ولأن أغلبهم من دول أفريقيا جنوب الصحراء، حيث ينعدم الأمن وتغيب المكتبات ودور العلم، أو لظروف مادية صعبة يختار أغلبهم المكوث بالمغرب إلى حين إنهاء مشوارهم الدراسي.
في دار الحديث الحسنية (مؤسسة جامعية مغربية رسمية)، يقضي حوالي 45 طالبا أجنبيا عطلتهم الصيفية بالمغرب، والتي تتزامن والشهر الفضيل، شهر الصيام والطاعة والعبادة وكذلك شهر الخير والتضامن والمبادرات الخيرية بامتياز.
مبادرتهن كانت هذه السنة نوعية وفئوية، توجهن بها للطلبة الأجانب لدار الحديث الحسنية.
تقترب الساعة من الخامسة مساء، لتتبقى ثلاث ساعات على أذان المغرب، فتقوم الفتيات بترتيب وجبات الإفطار التي ستوزع في علب كرتونية منفصلة.
تقول كوثر “تعودت بحكم عملي الجماعي على المساعدة في تنظيم إفطارات سنوية للمعوزين، في حين لم أنتبه إلى أن زملائي الطلبة الأجانب يكابدون أيضا صعوبات كثيرة في هذا الشهر الذي يتزامن وعطلة الصيف".
ولأن رمضان شهر الخير والعطاء، ارتأت كوثر فلاشادي ميكائيل، 32 سنة، طالبة ماجستير بدار الحديث الحسنية، من أب نيجيري وأم مغربية، أن تبادر شخصيا برفقة صديقات لها وأن تتكفل بإفطار زملائها الأجانب بدار الحديث بعد أن وقفت على معاناتهم المادية والمعنوية في هذا الشهر الفضيل بعيدا عن أهاليهم.
وأضافت مبتسمة “نحن كذلك نتوخى الأجر في هذا العمل، فإعانة طالب العلم وإفطار الصائم من أنبل الأعمال في الإسلام خاصة في رمضان”.
في نفس القاعة، تواصل كوثر برفقة باقي الفريق، ترتيب محتويات وجبة الإفطار بعناية تامة، وهي تقول “نحرص على تقديم وجبة متكاملة كما نحب أن نتناولها فهي مكونة من الحساء، بالإضافة إلى التمر والحليب والعصير والخبز وبعض الحلويات والمملحات حسب الميزانية”.
وبخصوص تكاليف الإفطار، أضافت كوثر قائلة “يقوم الفريق بجمع التبرعات من الأقارب والأصدقاء بشكل يومي، بالإضافة إلى الاستعانة بمواقع الشبكات الاجتماعية حيث نقوم بالترويج للمبادرة عبر صفحة خاصة بها".
وتقترب ساعة الإفطار فتسرع الفتيات في ترتيب علب الوجبات، ليتم نقلها إلى سيارة إحداهن ثم التوجه نحو أماكن التوزيع، وهي أماكن سكن الطلبة الأجانب بالعاصمة الرباط والمدن المجاورة لها.
حي البيتات، حي شعبي بالرباط العاصمة من بين أحياء أخرى يقطنها هؤلاء الطلبة وخاصة القادمين من دول أفريقيا جنوب الصحراء.
تترك كوثر سيارتها على جانب الشارع الرئيسي للحي، ثم تتصل بإحدى زملائها الطلبة ليستلم إفطاره وإفطار أصدقائه في نفس الحي.
وفي بيته المتواضع برفقة أصدقائه الغينيين، استقبلنا محمد كيتا، هم أيضا شدوا الرحال لطلب العلم، تاركين أهاليهم وأوطانهم، لا يستكينون لظروف الحياة ويكابدون للارتواء من بحر العلم العميق، يذكروننا بنوابغ الفقه والحديث الذين كانوا يبذلون حياتهم للعلم.
محمد بنت كيتا، الذي غادر بلده وأسرته بأكرا (عاصمة غانا) للحصول على الإجازة بكلية الشريعة بجامعة القرويين بفاس، ثم انتقل لمدينة الرباط للحصول على الماجستير بدار الحديث الحسنية ليكمل مسيرته العلمية بتحضير الدكتوراه في أصول الفقه.
قبيل أذان المغرب بدقائق قليلة، يجهز مائدة إفطاره المتواضعة، إلى جانب الإفطار المغربي، جهز هو بدوره طبقا أفريقيا من الأرز والباذنجان وتوابل أفريقية، يتذكر حينها محمد كيتا وأصدقاؤه كيف كانوا يقضون رمضان في السنوات الماضية.
وأضاف كيتا قائلا “أسعدتنا كثيرا مبادرة أختنا كوثر؛ فقد وفرت علينا الجهد والمال، لقد تفرغنا للبحث والدراسة كما أنها كانت فرصة ليلتقي الطلبة على موائد الإفطار”.
ويرفع أذان المغرب، فيتبادل الأصدقاء حبات التمر وكؤوس الماء، ثم يصلون جماعة ليلتحقوا بمائدة الإفطار، ولسان حالهم يقول “ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله”.
ويواصل كيتا حديثه للأناضول مشيدا هو وأصدقاؤه بمبادرة زميلته كوثر والتي أحيت فيها سنة إعانة طالب العلم وإفطار الصائم، كما أثبتت صدق المبادرات الشبابية المبدعة.
في هذه الأثناء ما زالت كوثر وصديقاتها يوزعن الإفطار على الطلبة الأجانب في الرباط إلى حين أذان المغرب ليلتحقن بعدها بأسرهن فيستشعرن حينها قيمة العائلة الملتفة حول مائدة الإفطار وقيمة إعانة الغير في شهر يضاعف فيه الثواب ويعظم فيه الأجر.