هناك من يقنعهم أن على الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، المقابلة لأفريقيا السمراء، تكمن الثروة والراحة وشبكة الأمان الاجتماعية. وفي مقابل مبالغ بخسة بالنسبة إلى المهرّبين، وباهظة بالنسبة إليهم، يتجمّعون على تخوم ليبيا وتونس والمغرب والجزائر، للهرب إلى القارة العجوز.
مهاجرون غير شرعيين، رجال وصبية ونساء، يحلمون بمستقبلٍ واعدٍ، ككل مجتمع يودّ أفراده الهروب من واقعٍ مزرٍ، لكن الحلم يتحوّل إلى فاجعة، حين يموت بعضهم غرقاً بسبب الأنواء البحرية التي لا تتحمّلها القوارب أو حتى إن وصل بعضهم الآخر إلى "برّ الأمان". وبعدما كان يتمثّل هذا البرّ، في مدينتي سبتة ومليلة المغربيتين المحتلتين من طرف إسبانيا، الواقعتين شمال المغرب على ضفاف المتوسط، سرقت جزيرة لامبيدوزا الإيطالية في السنوات الأخيرة كل الأضواء.
باتت لامبيدوزا القريبة من السواحل الأفريقية، جزءاً من المشهد الإعلامي الأوروبي شبه اليومي، في ظلّ ارتفاع منسوب التقارير المرفوعة إلى الدول الأوروبية بشأن "خطّ الموت" البحري، ومقتل عشرات المهاجرين أسبوعياً، في مأساة باتت "عادية".
لم تفكّر إيطاليا، حين كانت مملكة في العام 1860، كثيراً حين ضمّت لامبيدوزا إلى سيادتها، لكن أهميتها برزت في الحربين العالميتين الأولى (1914ـ 1918)، والثانية (1939ـ1945)، نظراً لموقعها الجغرافي الشبيه بموقع مالطا القادر على إزعاج خط المواصلات في البحر المتوسط، السلكية منها ثم النفطية لاحقاً. لكن "النعمة" الإيطالية، تحوّلت إلى نقمة. فالطليان باتوا يعانون من صعوبة التعامل مع وضع لامبيدوزا. المجتمع الدولي بالمرصاد، وسبق له أن حذّرهم من مغبّة إقامة مخيم لجوء غير مستوفٍ الشروط الصحية والاجتماعية. ورُفع شعار "من يدخل لامبيدوزا وجد نفسه تلقائياً، مع بعض التفاصيل، في أوروبا".
لكن أوروبا ما زالت هي نفسها؟ ربما لا تقول أرقام الأزمة المالية 2008 ذلك، ولا توحي أوضاع اليونان والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا بذلك، وتبقى فرنسا وألمانيا في موقع مريح قياساً بتلك البلدان. لكن أوروبا تغيّرت. ليس بالاقتصاد فحسب، بل باتت السياسة العامة للاتحاد الأوروبي، أكثر يمينية، إلى درجة أن "يسار" فرنسا مع رئيسها فرانسوا هولاند، رفع بعض الشعارات اليمينية جداً، تحديداً تلك المتعلقة بقوانين الهجرة، وترحيل أجيال متحدرة من أصول عربية وأفريقية، في حال خالفت القوانين الفرنسية.
أوروبا تغيّرت، مع الزلزال اليميني الذي ضرب في كل مكان. في فرنسا أضحت ماري لوبان لاعبة مؤثرة على رقعة الانتخابات البلدية. في هولندا تقلق شعبية الزعيم اليميني غيرت فيلدرز، جميع المراقبين. في السويد، أضحت البلاد تحت رحمة "المحافظين" الجدد نهاراً، وعصابات "النيونازية" ليلاً. في الدنمارك لا تبدو الأمور أفضل حالاً. وبالرغم من بعض التظاهرات الداعمة للفلسطينيين، إبّان العدوان الاسرائيلي الأخير على غزة، لكن أوروبا "الحقيقية" وجدت نفسها في شوارع الشانزيليزيه، حين احتفل الفرنسيون من أصل جزائري بتأهل الجزائر إلى الدور الثاني من كأس العالم الأخيرة، هال الفرنسيين مشهد الاحتفالات بالذات، التي وصفوها بـ"الغزو".
كشّرت العنصرية عن أنيابها، في ظلّ تأرجحها بين ثابتين: احترام حقوق الإنسان، التي نصّت عليها الدساتير الأوروبية المحلية والدستور الأوروبي العام، وتضعضع الوضع الاقتصادي في شكل عام في أوروبا، معطوفاً على أزمة الغاز الروسي، المتوقع أن تتفاقم الشهر المقبل، ما قد يستولد المزيد من الاضطرابات المالية، وينعكس سلباً على سوق العمل، وترتفع بالتالي نسب البطالة. باختصار، العنصرية الأوروبية، كل في موطنها، متحفّزة للنمو في الشهور القليلة المقبلة.
هذا في أوروبا. أما في أفريقيا، فلا تبدو الأمور على ما يرام، وفيروس "إيبولا" شقّ طريقه إلى الواجهة العالمية. مخاطر الملف الليبي تتفاعل مع كل يوم. أزمة مصر السياسية والاقتصادية تتفاقم. والمزيد من اللاجئين، الشرعيين وغير الشرعيين، يتدفقون من الشرق الأوسط، الذي يغلي، ما حدا ببعض الدول الأوروبية إلى استقبال اللاجئين "شرعياً". باختصار، الوضع مرشح للتدهور أكثر في تلك المناطق في العالم.
أوروبا تتوقّع أرقاماً اقتصادية سلبية، في موازاة تطوّر روح التطرّف، وأفريقيا والشرق الأوسط يتوقعان المزيد من التوتر السياسي والأمني. ووسط هذا المزيج الدرامي، لا تبدو الحلول الإنسانية العاجلة، ولا حتى الطويلة الأمد، واردة في ملف لامبيدوزا، وما مقتل نحو ألفَي شخص غرقاً، في الأشهر الثلاثة الأخيرة، سوى خير دليل على ذلك.
عن موقع العربي الجديد