بينَ جهوريَّة الصوتِ وثقلِ الحضُور على واحدةٍ من أكثر الشَّاشاتِ العربيَّة انتشارًا وَإثارةً للجدل، وذكريَات اليتمِ والعصاميَّة فِي دروب فَاس الضيقة، حيثُ راودهُ الحلم "الإذاعي"، أوَّل مرَّة، خطَّ الإعلاميُّ المغربيُّ المقِيم في الولايات المتحدَة، محمد العلمِي، مشوَارًا فريدًا من الطمُوح والتحدِّي، قبلَ أن يتكلل بالأدبِ؛ وقدْ أثمرَ كتابهُ الموسُوم "كاترِينَا مرَّتْ منْ هُنَا..يوميَّات العاصفة".
العلمِي الذِي فقدَ والدهُ في سنٍّ مبكرة، واضطرَّ إلى أنْ يعيش لدَى العمِّ، قبل الانتقال إلى ميتمِ باب الخُوخة في فاس، دون أن ينتصب اليتمُ حجر عثرةً أمام طموحه، يقُول إنَّ وقتًا طويلًا استلزمهُ التصالحُ مع الذات من تلك التجربَة، لكنَّه يستدركُ "لوْ قدر لِي أنْ أعِيش التجربة نفسها، بسابق تفاصيلها، لمَا ترددتُ لحظةً في أنْ أفعل".
بيدَ أنَّ العلمِي وإنْ رنَا إلى أنْ يكون صحافيًّا، يهتزُّ الميكروفون لصوته، على نحو "صوت الإذاعي العربِي" القوِي أيَّام النكسَة في 1967، فقدْ بدأ حياتهُ مدرسًا، بعدما تخرجَ من الأدب العربِي بالعاصمة العلميَّة، بعيدًا عن محارب الصحافة.
حجرة الدَّرس كانتْ رغم، عشق الأدب، أضيق من حلم العلمِي، فهاجر إلى أمريكا، حيثُ استهلَّ عمله الصحافي أواخر الثمانينات، بإذاعة محليَّة للجالية العربيَّة في أمريكا، قبل الانتقال إلى صوت أمريكا، ومن ثمَّ تلفزيُون "أبوظبي" الذي كان مرجعًا إخباريًّا. والعمل في قناة الجزيرة لاحقًا؛ مراسلًا من عاصمة القرار الدولِي "واشنطن".
بجانب العلمِي، الصحافي الفصِيح والمقبل على الميدان، حدَّ استثارة الجنرال المسؤول عن معتقل غونتنامُو، يومَ محاورته، حيث ألقى العسكري الأمريكي الميكروفون منهيًا الحوار على المباشر. ثمَّة العلمِي الإنسان، بتعبير من يعرفونه، حيث لا يتوانَى الرجل عن دعم الوافدِين المغاربة إلى أمريكا، وتمكنِينهم ممَّا يستطيع برحابة صدر.
شامة درشُول، الإعلاميَّة المغربيَّة التِي خاضتْ تجربة مهنيَّة في أمريكا قبل عام، تحكِي لهسبريس، كيفَ أنَّ العلمِي الذِي عرفته عن طريق "فيسبُوك" أبَى إلَّا أنْ يستقبلها في المطار بواشنطن، يومَ نزلتْ به أول مرة "لقدْ أخبرنِي ضاحكًا أنَّهُ يودُّ أنْ يكُون فألَ خيرٍ علي، ولم ينفك يطمئنُّ علي، خلال أيَّامِي الأولى بأمريكا".
"طوَال الأشهر الستَّة الأولى لِي بواشنطن، كان العلمِي نعم الأخ، ونعمَ الإنسان"، تزيد شامة، مردفةً أنَّ العلمِي وإنْ لاقَى "جزار سنمَار" من كثيرٍ ممن ساعدهم إلَّا أنه أبقَى نفسه كبيرًا، بمعرفته بخبايا الشرق الأوسط، وروحه المرحة، أوْ مغربيته يومَ الجمعة، حين يقبلُ على كسكس لم يلغه المهجر من قائمة الطعام.
بعين الناقد الذِي خبر الإعلام عقودًا طوال، يقُول العلمِي في حديثٍ لهسبريس إنَّه يرى نقاطًا قليلة مشرقة في الإعلام المغربِي، لكنه يلاحظُ كثيرًا من العبث، وعدم المهنيَّة وغياب المسؤوليَّة في الأحيان، بسبب غياب الإشراف المهني، وتأزم العلاقة مع الدولة والصراع المستمر معها على المعلومة وهامش الحريَّة.
بالرغم من ذلك، يرى العلمي أنَّ التراكم قد يصبح مفيدا في وقتٍ لاحق، لتعبيد الطريق أمام الممارسة الإعلاميَّة السليمة، سيما مع ما يصفهُ بالانفجار الهائل في عدد المواقع الإلكترونيَّة "هناك مآخذٌ على مستوى شكل بعض المواقع ومستواها المهني، إلَّا أنني متفائل بأنَّ نظريَّة البقاء للأصلح الدروينيَّة، ستفعلُ فعلتها في نهاية المطاف..هذه الممارسات المتعددة على فوضويتهَا أحيانًا، ستوفرُ لنا عددًا كبير من الممارسين وكمًّا هائلًا من التجربَة رغم كبواتها في بناء مستقبل أفضل".
الإعلام الإلكترونِي، بحسب العلمِي، يشكلُ آصرة بين مغاربة العالم وبلادهم، فهُو لا يخبرهم فحسب، وإنَّمَا يشكلُ وعيهم بالمغرب، سيما بالنسبة إلى الأجيال الثَّانية والثالثة، "ما يحزُّ في النفس هو أنْ يرى المرء المغرب يضيعُ وقتًا ثمينًا في الوقوف إلى الجانب الأفضل للتاريخ من خلال عمل الحكومة الفعلي وليس اللفظِي في إرساء الأجوَاء المناسبة لانطلاقة صحفيَّة، تتمتعُ بالهامش الضروِي من الحريَّة".
حين سألنَا العلمِي، عمَّا إذَا كان راضيًا عن نفسه، في الجانبين العملي والإنسانِي، بعد مساره الطويل، المفعم بالأحداث والنجاحات والمواقف الحياتيَّة، أجابَ بأنَّ الرضا التام أمرٌ مستحيل "ذاك يعنِي نهاية الطموح ونهاية التعلم، وبالتالِي نهاية الحياة، لكن هناك نوع من السكينة بالأحرى، أحاول قدر الإمكان أنْ أربِّيها وأنميها أكثر، رغم إلحاحها على الشغب".
وإنْ كانت أخطاءُ الحياة درُوسًا، فإنَّ العلمِي يؤكد عدم نظرته بالمطلق نظرة ندمٍ إلى شيءٍ سبق لهُ أنْ قام به "لقدْ تعلمتُ مع الزمن أنَّ الشعور بالندم، إزاء مواقف من الماضي، يستحيل تغييرها، ليس سوى مضيعة للموقت، بلْ إهدارًا مخيفًا لطاقات فكريَّة وعاطفيَّة يمكن توظيفها لفائدة مشاريع مقبلة"، يزيدُ المتحدث "المرء يحاول أنْ يبذل أفضل ما يستطيع، والكمَال لله وحده، فليس لنا، إذْ ذاك، أن نطالب الإنسان بما يفُوق طاقته". يختمُ العلمِي مواصلًا مسارهُ، الذي بدأ بمذياعٍ خشبِي يقرعُ مسمعهُ في فاس، وآل إلى "أيقونة" للإعلاميين المغاربة والعرب في أمريكا.