بعد بضعة أشهر من قبول السويسريين مبادرة شعبية ضد الهجرة الجماعية إلى البلاد، جاءت مبادرة أخرى لتزرع الذعر في الأوساط السياسية والاقتصادية. ففي 30 تشرين الثاني (نوفمبر)، سيتخذ الشعب قرارا بشأن إجراء تخفيض جذري لدخول الأجانب إلى البلاد.
"سويسرا بتسعة ملايين نسمة وليس 12 مليونا في عام 2050 أفضل وأقوى"، هذا هو جوهر المبادرة الجديدة التي طرحتها "رابطة التوازن البيئي والسكان (إيكوبوب)".
لكن المبادرة التي تبدو اقتصادية ـــ بيئية في مطلبها، أثارت الكثير من اللغط بعد اتهامها بأنها تهدف إلى إبعاد سويسرا عن أوروبا، وتكريس عزلة البلاد إزاء بلدان القارة القديمة، ولها دوافع عنصرية لمطالبتها بإنشاء سقف ثابت يحد من الهجرة إلى البلاد.
تسعى المبادرة التي تحمل اسم "أوقفوا الانفجار السكاني .. نعم للحفاظ على الموارد الطبيعية المستدامة"، إلى الحد من النمو السنوي للسكان وذلك بتخفيض الهجرة إلى نسبة لا تتجاوز 0.2 في المائة في المتوسط لمدة ثلاث سنوات.
تقول المبادرة إن 17 ألف شخص فقط، (بمن في ذلك اللاجئون والمهاجرون)، يمكنهم الإقامة بصورة دائمة في سويسرا كل سنة. بمعنى أنه ينبغي ألا يتجاوز العدد الصافي للزيادة السكانية في البلاد سنويا (بعد طرح الوفيات من الولادات وأعداد المهاجرين الذين تم تجنيسهم) 17 ألف نسمة. ويعني هذا الرقم، عمليا، تقليص عدد الزيادة السكانية بمقدار 80 في المائة تقريبا عن العدد المُسجَّل العام الماضي الذي وصل فيه صافي الهجرة إلى 87 ألف شخص. وتطالب المبادرة إدراج رقم 17 ألفا في الدستور.
يتضمن المطلب الثاني للمبادرة تخصيص 10 في المائة من أموال المساعدة التي تقدمها سويسرا لتنمية البلدان الخارجية، أو ما يعادل 200 مليون فرنك في السنة، إلى برامج تحديد النسل في البلدان الفقيرة، "حتى لو ثبت أن هذه المشاريع ليست لها سوى تأثير محدود".
وقال عالم البيئة، فيليب روش، المدير السابق للمكتب الاتحادي للبيئة، وهو أحد رعاة المبادرة، إنَّ سويسرا تعيش فوق طاقة إمكاناتها، إذ تستهلك أربع إلى خمس مرات أكثر مما يمكن أن تنتج، وعليه يجب قلب هذه المعادلة، رأسا على عقب.
وأضاف في مؤتمر صحافي حضرته "الاقتصادية" أمس، أنه ينبغي للحكومة أن تركِّز على الحد من النمو السكاني، وتقليص الاستهلاك، وتحسين كفاءة استخدام الطاقة لمواجهة مخاطر تفاقم الخلل في الموازنة بين النمو العالي للسكان مع الموارد الطبيعية والبيئية المحدودة. وقال، إن أحد أهم عوامل البصمة البيئية المؤدية إلى الاضطراب وعدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، هو تزايد السكان في إقليم محدود الموارد.
وقال، رودي ايشباخر، عضو حكومة مقاطعة، زيوريخ، في المؤتمر الصحافي، إنَّ نتائج الزيادة في السكان من دون فرامل، أصبحت محسوسة بالفعل، "فالناس يشعرون بأنهم أكثر ضيقا من قبل (...) القطارات، والترامات، ووسائل النقل العام مليئة حتى أسنانها بالناس، والازدحامات تتضاعف على الطرق، وإيجارات السكن تتصاعد، والخدمات الاجتماعية مثقلة.
وأضاف: الأسوأ من ذلك، أن المباني تنمو مثل الفِطر، ففي كل ثانية، هناك متر مربع واحد من الأرض يُبنى في سويسرا على حساب البيئة. وأكثر من 100 ألف شخص يُضاف إلى السكان كل عام، وفي عشر سنوات، ستعادل الزيادة بناء عشر مدن في حجم "فينترثور" (مدينة في شمال سويسرا يبلغ عدد سكانها 115 ألف نسمة) على هذه الهضبة الجميلة التي كانت لغاية السبعينيات عبارة عن غابة تضم بين بيتين وخمسة بيوت للفلاحين في كل 20 كيلومترا.
وفي المؤتمر الصحافي، قالت، أريكا هاوسيرمان، عضو حزب الخضر الليبرالي المؤيد لمبادرة حزب اتحاد الوسط الديمقراطي اليميني، إن الزيادة غير المنضبطة للسكان لن تسمح لسويسرا في تنفيذ خطتها عام 2030 في الخروج من الطاقة النووية بالاستعاضة عنها بالطاقة المتجددة، لأنه لن يعود بالإمكان بناء ما يكفي من السدود أو بناء آلاف مولدات الرياح في جبال الألب.
يقول الخصوم إن المسألة ليست بيئية بل كراهية الأجانب، فالمبادرة هي مرآة للعنصرية، وهي لا تحل أي مشكلة بيئية، وعلى الرغم من عنوانها الذي يتحدث عن المحافظة على الموارد الطبيعية، فهي لا تقترح أي حل لمكافحة الاستهلاك المفرط للمياه أو التربة أو الطاقة من قِبل الشخص الواحد.
من جانبها، أعلنت الحكومة في وقت مبكر رفضها للمبادرة، قائلة إنها تعتزم الحفاظ على الموارد الطبيعية، لكنها تعتمد على تدابير ضد الأجانب، وهي لا تقدم حلا للمشكلة البيئية. وذهبت وزيرة العدل، سيمونيتا سوماروجا، إلى القول إنه تحت ستار التوازن البيئي، تعتبر المبادرة الناس مشكلة، وفي هذا المعنى، هي تحمل "كراهية للأجانب" سواء كان ذلك بقصد أم دون قصد.
وقالت إن للمبادرة عواقب ضارة على الاقتصاد، فتخفيض عدد المهاجرين بهذا الشكل الصارم سيحد من مجال المناورة أمام الشركات الكبيرة في مجال التوظيف لأنها لن تتمكن من تشغيل الأيدي العاملة من خارج الحدود في حالة الازدهار الاقتصادي، مما سيعوق تغطية معظم احتياجات الاقتصاد.
وحول تخصيص عُشر المعونة الإنمائية لوسائل منع الحمل في البلدان الفقيرة، وصفت، سوماروجا، هذا المطلب بأنه "صيغة من صيغ السياسات الاستعمارية القديمة". وقالت إن الوقت الذي يقول فيه الشمال الغني للجنوب ما ينبغي القيام به وما لا ينبغي، قد ولَّى.
ووصف رئيس الاتحاد السويسري، ديدييه بوركالتر، المبادرة بأنها غير واقعية، ومتطرفة، وقبولها يعني إصدار حكم بالموت على التعاون الثنائي مع الاتحاد الأوروبي. وقال إنها تتعارض مع حرية حركة الأشخاص بين سويسرا والاتحاد، "وصياغة النص سيئة، وهي تحمل رؤية استعمارية جديدة تقريبا".
وقالت، المتحدثة باسم الحكومة، أنيَس شوخنكر، لـ"الاقتصادية" إنه في الوقت الذي لم يتم فيه بعد إنجاز مرحلة معقدة مع الاتحاد الأوربي لتنفيذ بنود مبادرة 9 شباط (فبراير) الماضي التي تحد من الهجرة، ينبغي الآن لسويسرا التصويت على مبادرة جديدة تسعى إلى تغيير النظام السويسري بشكل جذري. وقالت إن قبول المبادرة سيفرض تعقيدات على الأعمال الجارية لتنفيذ أي اتفاق مع الاتحاد الأوروبي، وسيقوض الجهود للحفاظ على علاقات مستقرة وقوية مع الاتحاد.
ورفض العديد من الأحزاب والأوساط الاقتصادية والمالية المبادرة قائلة إنها لا تستهدف مشكلات البيئة بقدر ما تستهدف إبعاد سويسرا عن أوروبا أكثر فأكثر. وصوَّت الحزب الليبرالي الراديكالي ضد المبادرة بأغلبية 238 صوتا مقابل صوت واحد وامتناع عضوين.
حتى الوقت الحاضر، لا يعطي أي استطلاع للرأي فكرة واضحة عن اتجاه الرأي العام، لكن المثير للاهتمام أن أنصار حماية البيئة قد أبعدوا أنفسهم بسرعة عن هذه المبادرة. في المقابل، دعت الأحزاب اليمينية كافة، بما في ذلك أكبرها، حزب اتحاد الوسطـ الديمقراطي، للتصويت بـ"نعم".