براجع العياشي، ابن طنجة الذي يتوفر على عيادَة بجهة لُومبَارديَا شمال إيطاليا، يقرّ بأنّه لم يرحل صوب مستقرّه الحاليّ بالصدفة.. وإنمّا جاء ذلك بتخطيط مسبق واكبه منذ الطفولَة، حيث انتقل لدراسَة علوم الهندسة.. فما كان إلاّ أن تخرّج طبيبا.
العياشي، المتخصّص في عدد من الشعب الطبيّة، والموفر خدماته للأسر الراغبة في ذلك، يقرّ بأنّه حقّق كلّ ما ابتغاه وسط إيطاليا، لكنّ طموحه المستقبليّ، وهو البالغ سنته الـ57، يقرنه بالاشتغال وسط المغرب، وذلك ضمن هجرة معاكسَة يخطط لها بمعيّة أسرته الصّغيرَة ويروم أجرأتها في القريب العاجل.
من جبل لْحْبِيب
عانق براجع العياشي الحياة في يوم الـ5 من شهر مَاي لسنة 1958، وذلك بمنطقة "جبل لْحْبِيب" التي تبعد عن قلب مدينة طنجة بـ50 كيلومترا تقريبا.. وبذات الفضاء تقترن ذكريات العياشي خلال مرحَلَتَي الطفولَة والمرَاهَقَة.. معتبرا إياها من أجمل لحظات العقود الخمسَة التي راكمها حتّى الحين.
بعد دراسة ابتدائيّة وسط مدرسة عموميَّة، كباقي أبناء جيله الذين يقاسمونه الانتماء لـ"جبل لْحْبِيب"، أفلح براجع في ولوج المرحلتين الإعداديّة والثانويّة بمؤسّسة تعليميّة إيطاليّة في مدينة طنجة.. وبالتالي فإنّ توجّهه نحو الهجرة إلى الدولة الإيطاليّة كان محسوما منذ نعومة أظافره، ولا يفصل بينه وبين تحقيقه غير الفترة اللازمة للتخرّج.
هندسَة الطبيب
شدّ العياشي رحاله صوب الديار الإيطاليّة مباشرَة بعد فلاحِه في نيل شهادَة الباكلوريا من ثانوية البعثة التي تمرّس فيها على اللغة والثقافة الإيطاليَّتَين.. وبنَاء على اشتغاله صيفا في مساعدة مهندسِين بطنجة، عمل برّاجع على تسجيل نفسه في كليّة هندسيّة، غير أنّ الصعبات التي لاَقاها خلال العام الأوّل جعلته يحوّل وجهته صوب كليّة الطبّ التي تخرّج منها بسلاَسَة.
"نلت تعليمي في المغرب وسط مؤسسة إيطاليّة، وبالتالي كان من الصعب عليّ الاستمرار في التحصيل الجامعي ضمن كليّة مغربيّة، بينما عملت القنصليّة الإيطاليّة في طنجة على التكلّف بملفّات تسجيلنا، إذ تمّ قبول كل الطلبات التي تمّ تقديمها أنذاك.. كما أنِّي لم أجد صعوبة في الاستفادة من منحَة دراسيَّة مغربيّة كانت تصرف لي طيلة دراستي بإيطاليا" يقول العياشي لهسبريس.
ويقرّ ابن طنجَة، المستقرّ بلُومبَارديَا، أن الصعوبات المعهود مصادفتها للمهاجرين قد غابت عن مساره.. مرجعا ذلك إلى علمه المسبق بالوجهة العلميّة التي كان يقصدها، دون أن يؤثر فيها تغيير مسار التخصّص.. كما يعترف بأن تواجد أخيه لجواره، إضافة لأصدقاء، كان يغيّب كل الإشكالات التي يمكن أن تنتج عن فضاءات السكن أو التعامل مع الغير.. دون إغفال الدور الذي لعبه الإلمام باللغة الإيطاليّة وثقافة البلد في تحقيق اندماج سلس.
الرّجوع..
أحسّ براجع العياشي، بعد تخرّجه طبيبا، أنّ التزامه الأخلاقيّ، الناتج عن استفادته من منحة دراسيّة مغربيّة، يستوجب عليه العودة إلى الوطن الأمّ من أجل الاشتغال.. وذلك ما فعله.. حيث يقول لهسبريس عن ذلك: "عدت إلى المغرب بناء على رغبة منّي، واشتغلت في إطار الخدمة المدينة ببني ملال التي عيّنت بها، كما عملت لسنتين كمسؤول بالمركز الصحي لدار ولاد زيدوح، وعند نهاية فترة الخدمة المدنية قدمت طلب تعيين نقلني إلى شفشاون، وبعدها اشتغلت بنواحي طنجة".
ورغبة في توسيع آفاقه، بعيدا عن الاكتفاء بشهادة الطب العام، قرر براجع العياشي العودة صوب إيطاليا، في هجرة ثانيّة.. مفلحا في استكمال دراسته بتخصص الجهاز التنفّسي، كما توجّه للاشتغال طبيبا للعائلات بالموازاة مع بدايته في التخصّص ضمن جراحة الفم والأسنان.. عاملا حاليا في تقديم الخدمات الطبيّة المقترنَة بكلا التخصّصين، إلى جوار المهام التي برع فيها كإطار صحيّ للطب العامّ.
صعوبات الدّاخل
يعترف براجع العياشي بكونه يحسّ بنفسه مغربيّا إيطاليا، مرجعا ذلك لمسار حياته الذي أمضاه بين البلدَين.. ويزيد: "أفكّر في العودة صوب وطني المغرب بمعيّة زوجتي الإيطاليّة، لكنّها تشتغل صيدلانيّة، وقد وجدنا صعوبات في توفير معادلة لشواهدها أثناء سابق قصد لنا للمصالح المختصّة بالرباط.. حيث طولبت باللجوء لمسطرَة معقّدة تستلزم، من بين أمور أخرَى، توفير مقررها الدراسيّ مترجما.. وهو ما نعتبره عرقلة لما نرغب فيه".
"أريد أن أقيم بالمغرب مع زوجتي وابنتي التي تخرجت في علوم الاقتصاد، ذلك أنِّي أطمح لذلك كي أنهِي مسار هجرتي لبلدي.. ولا أضن أن إيطاليا تصنّف لدَى مسؤولي المملكة كدولة متخلفة حتّى تطلب ترجمة لمقرّر دراسة زوجتي لعلوم الصيدلة بالفرنسيّة أو العربيّة من أجل نيل دبلوم معادلة.. خاصّة وأن الأمر يهمّ خبيرة تخرجت منذ ما يعادل الـ30 عاما.. لذلك تبقَى عودتي لبلدي مقترنَة بتبسيط المساطر المعمول بها في هذا الإطار.. خاصّة وأن أصدقاء لي بوزارة التعليم العالي أخبروني أن ما طلب منِّي غير معمول به بتاتا" يورد ذات الطبيب المغربي الإيطالي ضمن تصريحه لهسبريس.
الفرص المغربيّة
يرَى براجع العياشي أن الشباب المغاربة يتوفرون على فرص أكبر داخل وطنهم.. معتبرا ذلك عصارة خبرة راكمها طيلة عقود تواجده بإيطاليا وانفتاحه على تجارب زملاء له بعدد من بقاع العالم.. ويضيف العياشي: "أوروبا عاشت مرحلتها التي أنهتها الأزمة الاقتصاديّة، فمدخول الدولة الإيطاليَّة هزيل للغاية منذ 6 سنوات.. وهذا الأمر ينبغي أن يأخذه الحالمون بالهجرة على محمل الجدّ".
ووفقا لابن طنجة المنتظر لتوقيت عودته صوب وطنه فإنّ: "عددا كبيرا من مغاربة العالم يرغبون بشدّة في العودة صوب بلدهم بعد أن ضاقت الآفاق التي كانت تلوح سابقا، وأضحت تهدد المستقبل ضمن الفترة الراهنة.."، ويسترسل: "لا أتحدّث عن نفسي بقدر ما أنقل ما خلص إليه أناس عديدون يلاقون صعوبات مؤثّرة في ضمان عيشة كريمة وسط دول الاستقبال، ذلك أن معامل قد أغلقت أبوابها بالجملة، بينما فرص الاستثمار بالمغرب محتاجة لخبرات وكفاءات يمكن أن يوفرها الشباب بالانخراط في التكوينات المتوفرّة".