لم تكن الهجرة بالنسبة لأمال السويعد خيارا اتخذته بقدر ما كان قدرا محتّما.. ذلك أنّها انتقلت بمعيّة أسرتها صوب "المجهول" بناء على قرار من أب أراد تحقيق الأفضل، وفق تصوّره، لكل من يتواجدون تحت رعايته.. وإن اقتضى الأمر اجتثاثهم من بيئتهم الأصل وإعادة استنباتهم بمحيط استقبال لا يعرفون عنه أي شيء.
تاهت أمال وسط مدينَة ترِيفِيزُو بشمال إيطاليا، لكنّها عاودت الاهتداء إلى نفسها وتموقعها وسط زحمة التحدّيات التي تراكمت من حولها.. معتمدة في ذلك على مجهود ذاتيّ بعد أن حالت زحمة انشغالات أقربا ئها دون المواكبة الحقّة التي كانت تبتغيها.
ذكريات حيّة
تنحدر آمال السويعد من سوق السبت ببني ملال، وبذات المنطقة قضت السنوات العشر الأولى من حياتها، محتفظة بذكريات جميلة عن تلك الفترة التي مرّت عليها 20 سنة حتّى حدود الحين.. ابتداء من أولى خطواتها للعب مع أقرانها أمام بيت الأسرة وصولا إلى شدّها الرحال في سنّ مبكّرة صوب إيطاليا، ومرورا بالسنوات الأربع التي قضتها بابتدائيّة الحيّ للتحصيل المدرسي الأساسيّ.
نشأت آمال، وسط سوق السبت، ضمن أسرة متعدّدة الأفراد.. مجاورة والدَين و6 من إخوتها، وبمعيّة الجميع انتقلت صوب الديار الإيطاليَّة دون أن تتخطَّى ربيعها الثامن.. مواجهة صعوبات الانخراط في حياتها الجديدة التي لا تلتقي مع ما ألفته بفضاء عيشها الأصلي.
"وجدتني، بمعيّة أشقّائي، وسط بيئة لا أعرفها.. فحتّى اللعب لم نكن نجد من يشاركنا إياه على عتبات منزلنا الجديد، وأبناء الجيران لم نكن نتقن التواصل معهم بفعل عدم إلمامنا باللغة الإيطاليَة، ليسود على علاقتنا بالآخرين برود لا يقل عن قرّ فصل الشتاء ذاك الذي شهد مغادرتنا للوطن" تقول آمال.
التحدّي
استغرقت السويعد عاما كاملا حتّى تعيَ ظروف عيشها الجديدة، ففي سن التاسعة كانت قد أتمّت عامها الأول من التمدرس بمؤسسة ابتدائيّة سجلها بها والدها وسط مدينَة ترِيفيزُو الإيطاليّة.. وأسهم تعرّفها على أصدقائها الجدد، الذين يشاركونها فصول التحصيل، في شروع تعلّمها للسان التواصل الجديد.. بينما تكلّف توالي الأيّام والأسابيع والشهور بتطبيع علاقاتها مع محيطها.
اختارت آمال، عند شروعها في التمدرس الثانوي، بدراسة الفنّ ضمن شعبة اختارتها عن اقتناع.. مفلحَة في انتزاع إعجاب أساتذتها وزملائها بتفوّقها ضمن هذا المجال الذي رافقت التحصيل العلميّ به لمدّة عادلت 5 سنوات.. متخرّجة بمعدّل جيّد اقترن بـ75 نقطة من أصل 100.
"لم يكن والدَاي يعلمان ما أدرسُه.. ليس لأنِّي لم أخبرهم بالأمر، وإنّما لكونهما لم يكُونَا يصرّان على متابعَة وضعي المدرسي ولا الدروس التي من المفترض أن أنهل منها.. لذلك وجدتُني مجبرة على الاعتماد على نفسي، متسلّحة بحبي للمجال الذي اخترته لنفسِي وكذا إصراري على تحقيق ذات بمجهودِي الصرف" تورد أمال السويعد ضمن تصريح لهسبريس.
التعرف على الذات
تقرّ ذات المغربيّة الإيطاليّة بأن مرور السنين عن أول تواجد لها بالشمال الإيطاليّ قد أحدث مفعوله على هويتها التي أخذت تبهت بفعل ترسبات عيشتها وسط الهجرة.. ولذلك توجّهت، ضمن مرحلة تحصيلها الجامعيّ، صوب التخصّص في اللغات بتركيز على العربيّة إلى جوار التركية والإنجليزيّة والفرنسيّة.
وتعلق أمال السويعد وهي تورد: "استغرقت 3 سنوات ضمن المجال الأكاديمي الذي أقبلت عليه دون تردّد.. بل إنّ أصلي المغربيّ، وتحديدا الزمن الجميل الذي عشته ببلدي في أوائل عمري الطفولي، قد كان عاملا لدفعي صوب هذه الخطوة.. لكنّ أولى ساعات تحصيلي العربيّ وجدتني امام غربة ذاتيّة، خصوصا وأن مدرّسي قد كان إيطاليا يتقن لغتي الأمّ بعد أن درس في العاصمة السوريّة دمشق.. ومع توالي الحصص عاودت التعرّف على بلدي وكذا دينيّ".
عمدت السويعد، بعد تخرجها متخصّصة في العربيّة والإنجليزيّة، إلى البحث عن عمل داخل مؤسسات التدريس بترِيفِيزُو.. مستهلّة مسارها المهنيّ بتعامل مع جمعيّة محليّة مكّنها من تدريس "لسان العرب" لإيطاليين أغواهم جمال الحرف العربيّ لتعلّم تواصل الضفةّ الجنوبيّة من البحر الأبيض المتوسّط.. وقبل 4 سنوات أفلحت أمال في الالتحاق بمؤسسة ثانوية، وسط ذات المدينة، لتدريس اللغة العربيّة لتلامذتها.
ارتياح داخليّ
تقول ذات المغربيّة، وهي التي قاربت على إنهاء عقدها الثالث من حياتها، إنّها راضية على مسارها الشخصيّ باعتبار الارتياح الدّاخليّ الذي يعتريها عقب مسار همته تصدّعات هوياتيّة أكثر من مرّة.. وتضيف السويعد أنّها ذات الرضا لا يعني توقفها عن الطموح صوب تحقيق الأفضل ضمن القادم من الأيّام.
وتزاوج أمال بين التزامها المهني في التدريس وخدمات ترجمة تقدّمها لمحتاجيها في التواصل بناء على اشتغال مع مصالح الشرطة ونظيراتها ببلديّة ترِيفِيزُو، مبدية سعادتها في تسهيل حيَاة أناس لا يتقنون الإيطاليَة ويضطرون للتعامل مع إدارات لا تفهم ألسنهم الأجنبيّة.. معتبرة أنّ ذلك يذكّرها بالعون الذي كانت تحتاجه لتيسير تواصلها عند مقدمها إلى إيطاليا قبل عِقدين من الحين.
هجرة صوب الجنوب
"أحلم بالعودة إلى المغرب لأنِّي لست إلاّ جزء من بيئتي الأصليّة" تقول أمال السويعد لهسبريس قبل أن تسترسل: "إنّه حنين يستمرّ بالتنامي مع مرور الأيام وتقدّمي في العمر.. ولذلك أعمل دوما عن البحث عمّا يمكن لي أن أنقله صوب وطني من أجل إفادة النّاس وضمان عيشي وسطهم".. نافية أن يكون اقترانها بإيطالي ضمن مؤسّسة زواج ولجتها قبل أعوام، وكذا رعايتها لابن قد بلغ عامه العاشر هذه السنة، ان يكون عائقا أمام أجرأة هذا المسعَى.
وتساند أمال طموحات الشباب المغاربة الراغبين في فتح أبواب الهجرة امام مستقبلاتهم، شريطة اقتران ذلك بتحديد الأهداف وجعلها ملاصقة للرغبات في التحصيل والجد ضمن الاشتغالات.. لكنّها تستدرك: "من توفر على الطموح الجارف يمكنه أن يبصم على نجاحات حيثما كان، خاصّة بالوطن الذي يحتضنه".