مع بداية كل موسم دراسي في المدارس العربية بإسبانيا، أو بالأحرى في المساجد والجمعيات الإسلامية، يلوح في الأفق السؤال القديم الجديد: أي واقع تعيشه المدارس العربية بإسبانيا، وما دورها في الحفاظ على هوية أبناء الجالية العربية والإسلامية داخل مجتمع متعدد الهويات والثقافات؟.
سؤال عريض لواقع مرير عاشته ولازالت تعيشه هذه المدارس داخل أسوار المساجد، والتي تعتبر الملاذ الأول والأخير لتلقين أبناء الجيل الثاني من المهاجرين أبجديات اللغة العربية والتربية الإسلامية، والتي تحملت إدارتها عبء تسيير الحقل التربوي التعليمي، الذي لازال يعاني من جرح ونزيف "عشوائية" التسيير والتدبير، منذ أن وضعت الجالية الإسلامية لبناتها الأولى في الاستقرار بإسبانيا أواخر القرن الماضي.
واقع الجرح تعددت وتشابكت أسبابه، بين ما هو مؤسساتي مرتبط بالتشتت الكبير الذي يعرفه تسيير الحقل الديني بإسبانيا، من خلال التطاحن والحرب الباردة المعلنة وغير المعلنة بين تمثيليات الفيدراليات والجمعيات الإسلامية على "ريادة" تسيير الحقل الديني بإسبانيا بكل الوسائل والسبل، من أجل تحقيق مصالحها الذاتية، ومن أجل ترسيخ فكرها الإيديولوجي، ولا تلبي ولو الجزء البسيط من تطلعات الجالية المسلمة بإسبانيا، خاصة قطاع التربية والتعليم؛ وما بين هو تنظيمي، من خلال غياب مقرر دراسي ونموذج تربوي تعليمي يتماشى مع متطلبات واحتياجات أبناء الجيل الثاني من المهاجرين، الذين فتحوا أعينهم على مجتمع لغة تواصله لا تجمعها باللغة العربية سوى بعض المصطلحات ذات الأصل العربي، المحفوظة في القاموس اللغوي الإسباني منذ تأسيس الأكاديمية الملكية الإسبانية سنة 1713.
كما يشكل غياب الدعم الحكومي، سواء من الدولة المغربية أو الدولة الإسبانية، أحد أهم الأسباب التي ساهمت في تأزيم وضعية "المدرسة العربية"، باعتبار الجالية المغربية بإسبانيا هي الفئة المستهدفة، والتي يزيد عددها عن 700 ألف مهاجر مغربي، مشكلة نسبة % 53 من الجالية المسلمة بإسبانيا، والتي يقارب عددها 1.7 مليون مسلم، رغم غياب إحصائيات رسمية تؤكد العدد.
أهم المشاكل التي تتخبط فيها المدارس العربية بإسبانيا:
عشوائية تسيير وتدبير الحقل الديني من أغلب الجمعيات الثقافية الإسلامية
لا يختلف اثنان على أن مشكل "الأمية" يعتبر أحد أهم الأسباب التي تساهم في "عشوائية" أي مشروع ذي بُعْد تنموي، وغالبية الجمعيات الإسلامية بإسبانيا تُسَيَّرُ من طرف إدارات ذات مستوى تعليمي متدن، لا يسمح لها بأخذ زمام تسيير الحقل الديني، خاصة في مجتمع إسباني نظرته عن كل ما هو إسلامي وعربي هي نظرة صراع تاريخي.
مشكل الأمية والعشوائية داخل دواليب الجمعيات الإسلامية انعكس بشكل سلبي على "المدارس العربية"، والتي لازالت تتبع أسلوبا تقليديا في تدريس اللغة العربية لأبناء المهاجرين، يتنافى كليا مع متطلباتهم، ما يؤكد غياب إستراتيجية عمل تربوية واضحة من طرف رؤساء الجمعيات، الذين تغيب عنهم الكفاءة العلمية والثقافة البيداغوجية التعليمية في تسيير الحقل التعليمي داخل "المدارس العربية". فقد قضى بعض التلاميذ سنين عديدة داخل الحجرات الدراسية دون أن يستطيعوا النطق ولو بجملة عربية صحيحة، وحتى إذا نطقوا بها فإنه يصعب عليهم استيعابها.
غياب مقرر دراسي موحد بين مختلف المدارس يتماشى مع المحيط الذي يعيشه التلميذ العربي الإسلامي بإسبانيا
مقررات دراسية من المشرق والمغرب، وبعضها مستورد من تجارب أوربية، هي أهم ما "يُغَذى" به التلميذ داخل المدارس العربية (المساجد)، والمناهج المعتمدة في هذه المقررات، وحتى المواضيع التي يتم التطرق إليها، بعيدة كل البعد عن احتياجات التلميذ العربي بإسبانيا، بينما مستوى اللغة العربية في هذه المقررات يصعب على التلميذ فهمه واستيعابه، وذلك راجع لسيطرة اللغة الإسبانية على لسان وعقل أبناء الجالية العربية بإسبانيا، ما يطرح أكثر من تساؤل عن جدوى هذه المقررات والجهات المسؤولة عن استيرادها.
وتعتمد العديد من المدارس العربية على المقررات الدراسية المشرقية، خاصة المدارس التي يتم تسييرها من رؤساء الجالية المشرقية (سوريا، مصر، العربية السعودية)، والتي تتنافى كليا مع احتياجات التلميذ بإسبانيا، كما تشكل عائقا في فهم بعض المصطلحات المشرقية، والتي غالبا ما تستعمل بشكل كبير في هذه المقررات الدراسية.
وتتبع العديد من الجمعيات الثقافية الإسلامية النموذج الأوربي الفرنسي، وذلك بعد النتائج الإيجابية التي حققتها هذه المقررات في فرنسا، والتي لها تجربة طويلة في هذا المجال، عبر "سلسلة الأمل"، التي تعتبر "نقطة الأمل" لهذه الجمعيات، والتي تم وضعها وِفق منهج يراعي خصوصيات التلميذ المسلم الأوربي.
ضعف الكوادر التربوية
الأطر التربوية والتعليمية، باعتبارها قائد سفينة التنمية الفكرية والعلمية، تعد من نقاط الضعف التي لازالت تؤرق "المدارس العربية" بإسبانيا، بسبب ضعف الموارد البشرية العالمة بطبيعة المجتمع الإسباني وثقافته، وعقلية أبناء الجالية المسلمة التي ترعرعت بين أحضان الثقافة الإسبانية الأوربية؛ مما يجعل التلميذ يعيش بين ازدواجية ثقافة المجتمع الإسباني و"فيروس الأمية" داخل الوسط العائلي الذي يغيب عنه "الوعي" بتربية أبنائه على قواعد الهوية العربية والإسلامية.
كما يعتبر ضعف التكوين الأكاديمي لدى أغلبية "رجال التعليم" بالمدارس العربية أحد أهم الأسباب التي ساهمت في تأزيم وضعية "قطاع التعليم"، فغالبية المساجد والمراكز الإسلامية لا تعتمد على ضوابط بيداغوجية في اختيار الأساتذة، خاصة من ناحية التكوين العلمي.
فنجد مثلا "أستاذا" حاصلا على الشهادة الإعدادية ويشرف على أحد الأقسام الأولية، أو "أستاذا" حاصلا على الإجازة في العلوم الدقيقة (الرياضيات، الفيزياء، علوم الحياة والأرض...) ويتم تكليفه بتدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية؛ وفي بعض الأحيان يتم الاستعانة بـ"أساتذة" دون الشهادة الابتدائية.
هذا النهج يمكن تفسيره بأمرين: قلة الموارد البشرية والاستعانة بأي كان من أجل ملء الفراغ داخل الحجرات، وكذلك بضعف الإمكانيات المالية لأغلب الجمعيات التي يصعب عليها الاستعانة بأساتذة متخصصين؛ مما يجعلها تعتمد على "التطوع" في تسيير الحقل التربوي والتعليمي من خلال مبادرات فردية من "المهاجرين" الذين تلقوا تكوينا علميا في البلد الأصل، وتجارب "عَمَلية" تؤهلهم ولو بشكل نوعي لتحمل مسؤولية التدريس.
بينما يشكل الطلبة الذين يدرسون في مختلف الجامعات الإسبانية أهم الموارد البشرية التي تعتمد عليها بعض الجمعيات في المدارس العربية، وذلك من خلال الاستعانة بتكوينهم العلمي في البلد الأصل، وتجاربهم داخل الجامعات الإسبانية؛ مما يسهل عليهم فهم عقلية "التلميذ" داخل هذه المدارس.
فيما لازالت بعض الجمعيات تعتمد على النظام التقليدي المغربي، في ازدواجية دور إمام المسجد كواعظ وإمام "ورجل تعليم"، خاصة في المناطق الخارجة عن النطاق الحضري بالمدن الصغرى والقرى، وهو ما يطرح أكثر من علامة استفهام حول "المنتوج التعليمي" الذي يتلقاه هؤلاء التلاميذ.
غياب الجو التربوي داخل المدارس العربية
شكلت الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها رابع قوة اقتصادية بأوربا (إسبانيا)، والتي لازالت لم تتعاف بعد من ويلاتها، أحد أهم عوامل الأزمة التي تعيشها "المدارس العربية"، فغالبية المراكز الإسلامية تعتمد على إمكانياتها الذاتية من جمع التبرعات في تسيير أمورها؛ وهو ما انعكس سلبا على الوضعية التعليمية داخل هذه المراكز، إذ لازالت العديد من المراكز تعتمد على "باحات المسجد" كمكان للتحصيل العلمي، في غياب أبسط وسائل التمدرس، من طاولات وكراس، وذلك راجع إلى شُح الإمكانات المادية لهذه المراكز، الأمر الذي يؤثر سلبا على "المنتوج التعليمي" الذي يتلقاه التلاميذ داخل هذه المراكز.
ويشكل غياب أنشطة ترفيهية موازية داخل "الفصل الدراسي"، نقطة ضعف لدى أغلب المدارس، وذلك راجع إما لغياب إستراتيجية عمل تربوي واضحة المعالم والرؤى، خاصة لدى المراكز الإسلامية التي تتوفر على الإمكانيات المادية، أو لضعف الإمكانيات المادية التي تعتبر عائقا في خلق أنشطة موازية تلائم احتياجات التلميذ.
رغم كل هذه المشاكل والتحديات التي لازالت تعيشها معظم "المدارس العربية بإسبانيا"، فإنها لعبت ولازلت تلعب دورا أساسيا في الحفاظ على هوية أبنائها من "الاندثار والذوبان" داخل المجتمع الإسباني، من خلال المجهودات الجبارة التي تقوم بها العديد من الجمعيات الإسلامية وجمعيات المجتمع المدني في إسبانيا، والتي تحاول جاهدة أن ترقى بمستوى "المدارس العربية" من خلال التكتل تحت لواء "لجان تعليمية"، تضم مختلف الجمعيات التابعة للمدينة نفسها، خاصة في المدن الكبرى، وعقد دورات تكوينية لـ"رجال التعليم"، بالإضافة إلى التعاون المشترك الذي يجمع العديد من هذه الجمعيات، في تدارس ملف التعليم في كاتالونيا، مدريد، فالنسيا...
لكن مجهودات "الجمعيات والمراكز" تبقى غير كافية، خاصة في غياب الدعم المؤسساتي من الدولة المستقبلة (إسبانيا) والدول المغاربية والمشرقية التي تتحمل حكوماتها مصير أبنائها في بلاد المهجر، وكذلك غياب إستراتيجية عمل بيداغوجي واضحة المعالم من طرف الهيآت الفيدرالية الممثلة للجمعيات الإسلامية بإسبانيا، والناطقة باسم الجالية الإسلامية لدى الحكومات المحلية والمركزية، تبقى غير كافية لتحقيق آمال وتطلعات الجالية العربية والمسلمة بإسبانيا في الحفاظ على هوية أبنائها من الاندثار، خاصة أن إسبانيا دخلت ركب البلدان الغربية التي تشهد أكبر نمو للجالية العربية والإسلامية، والتي بدأت تدق باب الجيل "الثالث" من المهاجرين، وهو بحد ذاته تحد كبير يواجه مصير هذه الأجيال، إن لم يتم التعجيل بإيجاد الحلول الناجعة لإنقاذ "المدرسة العربية" والخروج بها إلى بَرِّ الأمان، بعيدا عن الخلافات الضيقة التي تعيشها الهيآت الدينية والفدرالية بإسبانيا.