فيلمان يتناولان حياة مهاجري شمال افريقيا في فرنسا من خلال نساء يعانين صراعات الأجيال وصراع الثقافات ويجدن مخارج متناقضة من أزماتهن.
كثيرة هي الافلام في ارشيف السينما الفرنسية التي قدمت واقع الاوروبيين اللاجئين الى فرنسا ابان النازية والفاشية وبعد الحرب العالمية الثانية، ثم موجة المهاجرين بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وفتح الحدود الاوروبية. اما الافلام التي قدمت مواضيع عن العرب المقيمين في فرنسا فهي قليلة، الا ان السنوات الاخيرة شهدت اهتماما بواقع المهاجرين العرب خاصة الوافدين من شمال افريقيا والجيل الذي ولد في فرنسا. عائلات تحاول أن تجد مكانها وطريقها وسط تناقضات واضحة بين ثقافة الجمهورية العلمانية وثقافة عربية تستند الى الدين كأساس لسلوك الفرد. فيلمان يُعرضان حاليّاً على الشاشات الباريسية ويقدمان عائلتين فرنسيتين من أصل مغاربي.
الفيلم الاول بعنوان فاطيمة للمخرج الفرنسي فيليب فوكون والفيلم الثاني: Haramiste ويعني مقترفة الحرام للمخرج الفرنسي انطوان ديروزييه. كلمة عنوان الفيلم الثاني ليست من أصل فرنسي بل تنتمي الى مئات الكلمات التي ولدت وتطورت بفعل التفاعل اللغوي بين لغة وثقافة عائلات الجيل المغاربي الذي ولد في فرنسا، وبين لغته وثقافته الفرنسية التي تعلمها وكبر معها منذ طفولته.
فاطيمة
فيلم يصور حياة امرأة مغربية تقيم مع ابنتيها في أحد مباني الإيجار المتدني لذوي الدخل المحدود HL M تنظف البيوت والمؤسسات وتعمل لساعات تتجاوز عدد ساعات العمل المحددة في القانون الفرنسي. رحل زوجها ليتزوج باخرى وترك لها ابنتين نسرين وسعاد تقوم بأعباء مصاريفهما خاصة التزاماتها اتجاه ابنتها الكبرى نسرين التي تريد أن تصبح طبيبة.
كان سبق لفيليب فوكون أن أخرج عام 2011 فيلمه الإنحلال La Désintégration يصور فيه حياة الشباب العرب في ضواحي باريس، واقعهم القاسي وفشل سياسات الدولة في تشجيعهم على الاندماج.
شباب ولدوا في فرنسا من عائلات مهاجرة ووجدوا انفسهم، أمام افق مغلق وهويات بكماء، يتحولون الى اصوليين. لكن المخرج يعود هذه المرة عبر فيلم فاطيمة ليقدم نساء العائلات المهاجرة ومعاناتهن وعزمهن على الانخراط وعلى خلق حياة أفضل لهن ولبناتهن. ثريا زروال لعبت دور فاطيمة، وهي التي لم تعمل في التمثيل سابقا بل مهنتها عاملة تنظيف في الواقع. قلة الخبرة في الوقوف امام الكاميرا استغله فوكون ليأتي اداء زروال خافتا لطيفا من دون تمثيل مفبرك أو بعيد عن الواقع.
تعمل فاطيمة لتغطية حاجات ومصاريف ابنتيها نسرين وسعاد وتهتم أيضا بما يقوله المحيط المغاربي عنهما. تؤنب ابنتها الصغرى سعاد إن ارادت الخروج بملابس لا تراها لائقة، لكنها تشبه ملابس أي مراهقة فرنسية، كذلك تتصل بابنتها نسرين التي تقيم في شقة صغيرة مع زميلة لها، تتصل بها وتطلب منها ان تلقي السلام على النساء العربيات اللواتي يقمن في المبنى والمباني المجاورة بحجة انهن بدأن بالنميمة عليها وعلى ابنتيها. المرأة العربية وسط هذا المجتمع المتناقض عليها أن تدفع اثمانا مضاعفة: ثمن الانخراط تدفعه لمجتمع فرنسي يصعب قبولها فيه وهي التي تلبس حجابا. الانخراط نفسه تدفع ثمنه مرة ثانية لمحيطها العربي الذي يتهمها بالتخلّي عن اصولها وعن عاداتها وقيمها العربية والاسلامية!
انها هجرة مضاعفة ويزيد جهل اللغة الفرنسية وعدم القدرة على التعبير بها شعورا بالاغتراب لدى فاطيمة. تسأل ابنتيها عن معاني الكلمات كلما سمعت أو قرأت كلمة جديدة. تتعرض للأذى اللفظي ليس فقط من الفرنسيين الذين تعمل معهم بل أيضا من محيطها ومن ابنتها الصغرى الثائرة على وضعها الاقتصادي والاجتماعي والتي تخجل من مهنة والدتها. اغتراب قاومته فاطيمة بما يشبه الصمت وبعودة أخاذة نحو لغتها الام. تكتب يومياتها ومشاعرها وما يخطر ببالها. كتابة تقاوم مشاعر الذل اليومي في العمل والشارع وفي مدرسة ابنتها حين قابلت معلمتها ولم تستطع قول أي شيء أو حتى السؤال. اللغة هي المنقذة، هي التي تحيك خيط الوصل بين فاطيمة والعالم الخارجي، حين بدأت تقرأ للطبيبة ما كتبته بدأت تشعر بوجودها، بأنها كائن مرئي ومسموع.
شخصيات قابلة للعيش والتصديق الا انها شخصيات لم تتطور. رغم التسطيح في الشخصيات تبقى فاطيمة تمثل وبقوّة النساء العاملات حيث بطولتهن في اليومي والعادي وليس في الامور الكبيرة. اشياء الحياة التي قد لا نراها، تسجلها عين كاميرا المخرج الفرنسي ويصنع منها فيلما. المرأة التي لا تتقن الفرنسية تعود الى اللغة العربية ملاذها الوحيد ووسيلتها التي لا تخونها للتعبير عن آلامها وغربتها ومعاناتها في المجتمع الجديد. تريدها أيضا أن تكون صلة وصل مع ابنتيها. الابنة الكبرى تحاول فك رموز ما تكتبه الام فاطيمة. تنظر الى دفترها بحب رغم انها على الغالب لا تفهم شيئا مما كُتب لانه باللغة العربية. نسرين الابنة الكبرى التي تجتهد وتعاني في حياتها الاجتماعية كما في صف السنة الاولى في الطب. في نهاية السنة ستقرّر امتحاناتها النهائية مصيرها ومصير عائلتها معها. وسعاد الابنة الصغرى الثائرة ضد المجتمع وضد الام وضد فتيان مدرستها. الا اننا نراها تهادن الاب وتتعلم قيادة سيارته وتخرج معه لشراء حذاء رياضي جديد لها. هي ثائرة صحيح لكنها في نفس الوقت تفتش عن مرجع يشعرها بالأمان وتتخيل ان هذا المرجع يستطيع أن يمثله الاب رغم اننا سنجد انه يحمل افكارا مختلفة تماما عن ثقافة فرنسا التي ولدت فيها سعاد.
استند الفيلم الى كتابين باللغة الفرنسية للكاتبة المغربية فاطيمة الأيوبي. الاول بعنوان «صلاة للقمر» صدر عام 2006 والثاني بعنوان «أخيراً... أستطيع السير وحدي»، عام 2011 . الكتابة انقذت المرأة الكاتبة كما أنقذت فاطيمة المهاجرة من الوحدة والغربة الذاتية واخذت من اللغة بيتا ودثارا ثم استقلالا معنويا وواقعاً.
العرض الباريسي لفيلم هاراميست (تصح ترجمته بـ مقترفة الحرام) كان بحضور مخرج الفيلم انطوان ديروزيير الذي تحدث عن كيفية اختيار الممثلتين الرئيسيتين في الفيلم. تمّ اختيارهما من 400 شابة تقدمن للعب الدورين في الفيلم. فازت ايناس شنتي وسعاد ارسان بالدورين: ريم وياسمينا شقيقتان مراهقتان دون العشرين ولدتا من عائلة مهاجرة. تبحثان في كل لحظة عن حياة حرة ضمن توازن من الصعب الحفاظ عليه وسط عائلة مسلمة. تتحدثان بجرأة دون حدود عن الجنس والعذرية والعلاقات. شاركت الممثلتان اللتان لم يسبق لهما التمثيل (مثل ثريا ارزوال في فيلم فاطيمة) في كتابة السيناريو والحوار ليأتي الفيلم القصير (اربعون دقيقة) مليئا بالسخرية الحادة والذكية عاكساً تناقضات القيم بين عائلة متشددة وجيل تربى وسط قيم الجمهورية الخامسة.
في فيلم ديروزييه تعود الشقيقتان المحجبتان من الشارع والامكنة العامة الى بيتهما. تخلعان الحجاب لتشبها حينها أي فتاة فرنسية داخل منزلها. يتحدثان في الجنس ويصادقان الشبان عبر الانترنت بل تخرج أيضاً الابنة الكبرى لموافاة احدهم ذات مساء متأخر وأثناء نوم الاهل. تقومان بكل ذلك خفية عن الاهل الذين لا يقبلون الثقافة الغربية الا ان الفتاتين تجدان دائما المخرج المناسب لاشكالية عبّرا عنها بقالب مضحك. نجد في سلوكهما ذكاءً يتعامل مع تناقضات ثقافتين تعيشانهما في كل لحظة من حياتهما. في مشهد صاخب، ترفع الشقيقة الصغرى ياسمينا صورة ياسر عرفات على الجدار وراء شقيقتها ريم الجالسة امام شاشة الانترنت تتحادث مع شاب ويتواعدان للقاء. وحين سألها صورة من هي تجيب ان والدها سفير المملكة السعودية وهذه صورة قريب له. عبر التحادث عبر الانترنت تعيد الشقيقتان بناء عالم خاص بهما، ولا بأس بالنسبة لهما إن سخّرا من اجل ذلك تاريخ العائلة وانتماءها. تاريخ وانتماء لم تنجح العائلات في إيصالهما الى الأبناء ولا علاقة للأبناء به.
ما قام به الفيلمان هو اخراج الهوية العربية المسلمة في فرنسا من شرنقة وضعت بها كهوية لا تستطيع التأقلم مع المجتمع الفرنسي.
فيليب فوكون اعاد الامور الى نصابها: فاطيمة تشبه أي عاملة فرنسية أتت من خارج باريس وضواحيها، لنقل انها أتت من الريف. لا بد ستواجه تلك الطبقية العمياء التي اتصفت بها سيدة المنزل الثرية التي لم تستطع أن توصل ابنها الكسول الى أي نجاح مدرسي، بينما فاطيمة المرأة التي تتجاوز مدة عملها اليومي ساعات ضوء النهار تتوقع فوز ابنتها في امتحانات السنة الاولى طب.
الفيلمان متعارضان ومتقاطعان في آن. كل يقدم المرأة المسلمة في المجتمعات الاوروبية من موقع مختلف لكنهما يشتركان في حب انساني وفي رغبة لنزع الصورة الغبية التي ينظر اليها العنصري الغربي للمرأة المسلمة. فوكون قدم العالم بعيني فاطيمة المهاجرة، بينما ديروزييه قدم الواقع عبر جيل ولد في فرنسا وأصبح فرنسيا. قدم المخرجان مجتمع المهاجرين من خلال يوميات النساء فيه. نساء ينتمين الى اجيال مختلفة ويختلفن في مصائرهن عن الرجل الذي يستطيع في أي وقت العودة الى بلاده والزواج مرة ثانية من شابة بعمر بناته الا ان المرأة المهاجرة تخسر في عودتها الكثير. نستطيع أن نرى أثناء زيارة الاب لابنتيه مدى ابتعاد الاب عن واقع ابنتيه الثقافي والاجتماعي. كما ان الحوار بين الابنة الكبرى ووالدها حول تدخين المرأة أظهر اشكالية الاختلاف الثقافي بين الجيل الاول والجيل الثاني بل الثالث من المهاجرين العرب الى فرنسا. الجيل الذي ولد في فرنسا هو أيضاً لا يخوض حربا واحدة هي حرب الاندماج وان يقبل وسط المجتمع المختلف بل حربا أخرى هي حرب انتزاع الاعتراف باختلافه عن الأهل والمحيط.
ولا يختلف وضع الشقيقتين ريم وياسمينا عن وضع نسرين وسعاد، اذ تنتمي الشابات الاربع في الفيلمين الى جيل ولد في فرنسا. تجمعهن اللغة الفرنسية التي تخط فاصلا لغويا وثقافياً مهمّاً بين الاجيال. ورغم ان الحوار بين الشقيقتين ريم وياسمينا كان بمعظمه باللغة الفرنسية الا ان الفتاتين تقومان بتطويع اللغة وتبديلها. نسمع لغة هي تزاوج بين اللغتين. هكذا تحولان كلمتي Frères musulmans الى شيء آخر: frères muz هكذا أيضا ولدت كلمة Haramiste وهو عنوان اختاره المخرج ديروزييه بذكاء لانه يدل بشكل أو بآخر على تزاوج ثقافتين وفكرين ورؤيتين تمثلّا في جيل مراهق يحاول أن يجد طريقه.