يعتبر الإسلام ثاني أكبر ديانة بالنرويج، حيث يبلغ عدد المسلمين 120.882، بحسب تقدير مكتب الإحصاء النرويجي لسنة 2013. ويتمتع مسلمو النرويج بقدر كبير من الحريات تكريساً لمبدأ حرية الأديان الذي يقرّه الدستور وتنص عليه القوانين النرويجية.
ففي الوقت الذي يعاني فيه مسلمو الدول الأوروبية الأخرى من أشكال مختلفة من المضايقات التي تحول دون ممارستهم لشعائرهم وهويتهم الدّينية، لا تفرض الحكومة النرويجية قيودا تعسفية على المواطن المسلم.
وفي ظل هذه المعطيات، تبقى مقاربة النرويج لمبدأ العلمانية مختلفة، إلى حد ما، عن باقي الدول الأوروبية الأخرى. فحتى وقت قريب كانت المسيحية بمثابة الديانة الرسمية للدولة، وكانت الملكية مرتبطة بالكنيسة ارتباطًا مباشرًا، غير أن الجهود المتواصلة لاستيعاب واقع تعدّد الديانات بالنرويج أدى تدريجيًّا إلى إبعاد المسيحيّة عن مراكز اتخاذ القرار ولم تعد وحدها تحدّد المكونات الأخلاقيات العامّة، أو تبّثُ في العديد من القضايا؛ كالطلاق والإجهاض وتحديد النسل والمثلية.
ففي شهر ماي سنة 2012، تمّ بموجب تعديل دستوري، منح الكنيسة في النرويج استقلاليتها عن الدولة، وبالتّالي أصبحت كباقي الديانات الأخرى تستفيد من دعم الدولة المالي بحسب عدد أعضائها.
لكن وعلى الرغم من فصل الدين عن الدولة، لم تُسن أيّ قوانين تمنع الرّموز الدّينية في المدارس أو المؤسسّات الرسمية كما هو الحال في فرنسا، بل تم تخويل الأقليات الدينية ممارسة عقائدها دون قيود.
فبالإضافة إلى الدعم المالي الذي تقدمه الدولة للمراكز الإسلامية، فهي تسمح أيضاً بتدريس التربيّة الدّينية، ولعل أبرز مثل على ذلك موافقة الحكومة رسميّاً على إنشاء أول مدرسة إسلامية في عام 2014 استجابة لمطالب مسلمي النرويج.
من جهة أخرى، قد تستفيد الكنيسة من عدة امتيازات بخلاف الديانات الأخرى؛ كانفرادها بتسيير الشأن الديني بالسجون وداخل المؤسسة العسكرية ومن خلال الاحتفالات الرسمية في البلاد.
وعلى الرغم من هذا التوجه العلماني، الذي يستوجب الاعتراف والمساواة بين مختلف الأديان، تعود الحكومة الحاليّة إلى اقتراح تعديل جديد على التعليم الدّيني الذي مفاده تخصيص حيز أكبر لتدريس الديانة المسيحية (بنسبة 55 في المائة على الأقل).
ولا شك أن المساواة بين الجنسين في العديد من المجالات أمرٌّ ضروريّ لتحقيق التّنمية والعدالة والعيش الكريم، إلا أن ربطها فقط بقيّم ومفاهيم الأغلبية يتجاهل الاعتراف بتجربة وثقافة الآخر وقد يساهم أيضا في ترسيخ إشكالية "نحن" ضد "الآخر".
فهذه الفجوة بين خطاب المساواة والواقع الفعلي الذي يشهد تعددية ثقافية ودينية لخير دليل على انعدام المجهودات التي من شأنها إدماج أصوات ومواقف وقناعات الأقليّات في اتخاذ القرار.
في السياق نفسه، أكد عدد من الباحثين أن مفهوم العدالة الاجتماعية والمساواة في النرويج يقوم على تحليل لعلاقات النوع الاجتماعي دون الأخذ بعين الاعتبار مختلف مكونات المجتمع النرويجي.
ويبقى السؤال المطروح: ألهذا الحد تنسلخ الدول الأوروبية عن قيم المساواة ودفاعها عن الحريات بمجرد شعورها بأنها مهددة بقطعة قماش لا تتجاوب المترين؟ أليس هذا اضطهاد للمرأة بدلا من تحريرها؟ وعن أي حرية يتحدثون إذا لم تضمن الحرية لكافة المواطنين بغض النظر عن توجهاتهم وأعراقهم أو دياناتهم ما لم تمس حقوق الآخرين؟
وتزامنا مع أحداث المجلة الساخرة "شارلي إيبدو" بباريس، أكدت رئيسة الوزراء "إيرنا سولبيرغ"، في تصريحات لقنوات محلية، على ضرورة التشبث بحماية حرية التعبير، ضاربة بعرض الحائط مشاعر المسلمين وحرية العقيدة وتجريم المساس بالمقدسات الدينية.
إن ترويج مثل هذا المفهوم الجائر لحرية التعبير قد يُفسّر بمثابة هجمة مقصودة لإثارة مشاعر المسلمين واستفزازهم، خصوصا وقد شجعت "سولبيرغ" على إعادة نشر الرسومات المسيئة للنبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
إن توظيف خطاب كهذا بحُجة الدفاع عن مكتسب "حرية التعبير"، قد ينتج عكس ما يُزعم من الدفاع عنه، وذلك من خلال مساهمته في زرع بذور الانقسام في المجتمع، بل وقد يساهم أيضاً في تفاقم ظاهرة الخوف من الإسلام أو ما يُعرف "بالإسلاموفوبيا".
وخير دليل على ذلك، العمل الإرهابي الذي اقترف في 22 يوليوز 2011 من لدن يميني متطرّف، حيث قتل قرابة 77 شخصا، معظمهم لا تتجاوز أعمارهم 18 عاما.
وقد يفهم هذا التوجه الحكومي أيضا كتجاهل للإسلام، باعتباره أحد المكونات الأساسية للهوية النرويجية التي لا زال يعتبرها البعض هويّة مسيحية فحسب.
ويبقى موقف بعض البلدان العربية والإسلامية من دولة النرويج عقب هذا التصريح مشرفا، حيث انتقدت تقصير الحكومة وعدم اتخاذها الإجراءات اللازمة لمنع الإساءة إلى الرسول صلّى الله عليه و سلّم، وكذا عجزها عن حماية الأقليّات المسلمة.
هذه الخطابات المنتشرة شجعت وجود حركات مثل "Pegida"، التي نشأت في ألمانيا أواخر العام الماضي، حيث نظمت احتجاجات أسبوعية تحت شعار "تحالف أوروبيين ووطنيين ضد أسلمة الغرب".
وشهدت النرويج، هي الأخرى، مسيرة مناهضة للإسلام، على غرار الاحتجاجات التي عرفتها مدينة "Dresden" الألمانية، حيث سيرت المجموعات المتطرفة المناهضة للهجرة والمسلمين على وجه الخصوص مسيرات منددة بانتشار الإسلام بأوروبا.
وتعمل الحركة على الاستفادة من أحداث فرنسا والدنمارك، متهمة المسلمين بعدم قدرتهم على الاندماج والتعايش مع الآخر، في محاولة لإقناع الرأي العام بما يسمى خطر تنامي أعداد المسلمين، لما له من عواقب وخيمة على أمن البلاد واستقرارها، منتقدة فشل مشروع التعددية الثقافية (Multiculturalism) الذي تنهجه الحكومة النرويجية.
وإضافة إلى الشبهات التي تثار بشأن المسلمين ومرجعياتهم الدّينية والثقافية، فضلاً عن الاتهامات المتكررة بالتطرف والإرهاب، تهدف مثل هذه الحملات إلى تشويه صورة الإسلام والمسلمين بصورة عامة لدى المواطن الغربي.
إن كل خطاب يقول بتعارض الإسلام مع مفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، واتهامه بجحود حقوق المرأة ونشر الأفكار التي تكرس التخلف والانحطاط، إنما هو إنكار للدور التاريخي والحضاري للمسلمين في نشر العلم والمعرفة والمساهمة في النهوض الحضاري والتقدم الإنساني.
مستقبل التعددية في المجتمعات الغربية رهينٌ بالعمل المشترك بين مختلف الأطراف، ويبقى الحوار وسيلة حضارية لتحقيق التفاهم والتعايش بين الناس على اختلاف أعراقهم وثقافاتهم، وهو مدخل أساسي لفهم الآخر ومعرفته معرفة صحيحة، مما يساعد على تجنب مسببات الصدام الناجمة عن الجهل أو الخوف غير المبرر من الآخر.
إلهام سكاح*
*باحثة مغربية مقيمة بالنرويج
حصلت على "جائزة المعرفة" لسنة 2015 التي تقدمها عدد من مؤسسات التعليم العالي في العاصمة النرويجية أوسلو.
ونالت شهادة الماجستير في إطار أعمال مركز للأبحاث بكلية العلوم الإنسانية بأوسلو يهتم بموضوع النوع الاجتماعي.
حاصلة على الإجازة في اللغة الانجليزية سنة 2010 من جامعة محمد بن عبد الله بفاس.