يقدم الشريطة شهادات حية ومادة توثيقية غنية تعيد حكي مرحلة أساسية من هجرة العمال المغاربة للعمل في مناجم الفحم في شمال فرنسا. فشخصية "فيليكس مورا" حتى وإن لم تظهر في الشريط لكنها كانت حاضرة في جميع شهادات عمال المناجم المغاربة وعائلاتهم، بما أن "مورا" كان ولمدة عشرين سنة هو حلقة الوصل بين شركة مناجم الفحم في "نورد با دوكالي" شمال فرنسا، وهؤلاء الأشخاص الذين كان جلهم من الفلاحين المنتمين إلى مناطق قروية.
لقد كان "فيليكس مورا" المشرف على عملية انتقاء العمال بناء على بنيتهم الجسمانية ومستواهم الدراسي. فتوفر الشخص المرشح للهجرة على مستوى دراسي ولو بسيط لن يمكنه من اجتياز امتحان الانتقاء، وبالتالي فلن يضع مورا الطابع الأخضر على صدره، والذي يؤهله للسفر إلى فرنسا. إنه شكل بدائي من أشكال الهجرة الانتقائية.
يستعيد الشريط الوثائقي الذي تدور أحداثه بين قرى جنوب المغرب ومناطق من شمال فرنسا احتضنت في السابق مناجم الفحم، معاناة هؤلاء العمال المغاربة الذين تحملوا صعوبات الاشتغال في أعماق أرض لم يخبروها من قبل، وأمضوا سنوات شبابهم في ظروف عيش غير لائقة، مازالت تفاصيلها محفورة في ذاكرة أبنائهم ممن ولدوا وترعرعوا هناك.
ليس هذا فحسب، بل تظهر الشهادات الموثقة معاناة هؤلاء العمال من العنصرية سواء في الحقوق أو الرواتب ومن التمييز في السكن وفي المناصب مقارنة مع العمال الفرنسيين؛ كما تسجل محطات من الحركات الاحتجاجية في صفوف العمال من أجل انتزاع بعض الحقوق والمكاسب الظرفية. وهنا أيضا كانت شخصية "فيليكس مورا" حاضرة كشخص وكمؤسسة تتدخل إما لتهدئة الأوضاع في إطار الوساطة مع الإدارة الراغبة في إغلاق المنجم بأقل الخسائر، أو للانتقام من العمال، بتهديدهم بالاستغناء عنهم كلما ارتفعت أصوات مطالبة بالمساواة والإنصاف وتسوية الوضعية.
بالإضافة إلى كشف الصعوبات المهنية التي تسببت لدى الألاف من العمال المغاربة في أمراض تنفسية مزمنة أودت بحياة الكثير منهم مع إصرار طبيب شركة المناجم على إخفاء المرض حتى لا تتحمل الشركة عبء التعويضات، نجح مخرج الشريط في الغوص في الحياة الاجتماعية الخاصة وحتى في جوانب من الحياة الحميمية لعمال المناجم المغاربة وعائلاتهم، ونقل التمزق الأسري الذي تسببت فيه هاته الهجرة الاقتصادية، التي كان الهدف منها في البداية هو السفر للعمل بضع شهور من أجل تحسين الوضع الاجتماعي ثم العودة إلى القرية.
فشخصية "لحسن" المتخيلة كانت محورية في الحكي، من خلال الرسائل المسجلة التي يتوصل بها من طرف زوجته "زهرة" التي بقيت في القرية ترعى البيت وتربي الأولاد في انتظار الالتحاق بالزوج. هي صرخة امرأة بصوت كل نسوة العمال اللائي أمضين حياتهن على الهامش بعيدا عن الأزواج، الذين لم يكونوا بدورهم في وضع أحسن، في ظل مرارة الوحدة وقساوة الغربة، عزاؤهم في ذلك حلم قد يتحقق يوما ما بالرجوع إلى "البلاد" ولم الشمل ونسيان سنوات الفحم السوداء.
صحيح أن بعض المحظوظين من العمال استطاعوا النجاة من كابوس المنجم وحصلوا على رخصة حياة جديدة ولو بعد عدة سنين، إما في الوطن أو في الهجرة؛ لكن الأخرين مثل لحسن" لم يحالفهم الحظ وبقوا وحيدين في الغربة في مواجهة المرض والشيخوخة. مات لحسن في النهاية والتقط أنفاسه الأخيرة بمفرده بعيدا عن أولاده وعن "زهرة" التي لم تنجح في الحصول على تأشيرة سفر لتوديعه.
هيئة التحرير