السبت، 28 دجنبر 2024 14:04

المغربي محمد حمودان يكتب بالفرنسية .. ولا يجامل الفرنسيِّين

الخميس, 18 شتنبر 2014

يوجد محمد حمودان اليوم في الصف الأمامي للكتاب الذين يمثلون الأدب المغربي الجديد المكتوب باللغة الفرنسية، في نهاية الثمانينيات اتجه إلى باريس من أجل إتمام دراسته الجامعية، حاملا معه في حقيبة سفره المتواضعة نصوصه الأولى، شغفه الأبدي بالكلمات سيقوده إلى مواصلة المغامرة، و السياقات التي جعلته يقطن في غرفة بضواحي العاصمة جعلته أيضا يقطن بثبات في غرفة الأدب.

بدأ شاعرا، أصدر كتابه الأول سنة 1992 عن دار لارماتان، و بعده "قصيدة ما وراء موسم الصمت" في 94 عن نفس الدار، ستليه عدة مجاميع شعرية نذكر منها "هجوم" و"ميكانكا بيضاء" عن دار لا ديفرانس ثم "توهج" عن دار المنار. بعد ذلك انتقل حمودان إلى الرواية و ظل يتحرك بين الضفتين، أعماله الأدبية التسعة جعلته يلفت الانتباه إليه ككاتب إشكالي اختار الفرنسية لا ليقدم أدبا فلكلوريا يجامل به الفرنسيين، إنما لينتقد مجتمعهم بالحدة التي ينتقد بها مجتمعه العربي، و أحيانا بلغة صادمة يصفها الكاتب نفسه بـ "الفرنسية المتوحشة و غير المتواطئة". الشاعر المعروف عبد اللطيف اللعبي تفاجئه هذه اللغة: "يباشر حمودان بالفعل عملية استكشاف أساسية، وهو يسير في هذه الطريق المحفوفة بالمخاطر، والتي تتخللها لغة لم نعهدها. إني أراه يتقدم بغضب و عشق، وقد ترك الخوف وراءه، حالما بشمس تنتفض في الأفق".

من جانبه، كلود موشار الشاعر الفرسي الذي كتب مقدمة "قصيدة ما وراء موسم الصمت" سيؤكد أن نصوص حمودان تبتعد عن القوالب اللغوية و الشكلية الجاهزة، إنها "تتحرك، منجرفة على الصفحة البيضا ء وقد صارت هواءً أو عنصراً سائلا". أما الناقدة إميلي سولاتج فستكتب في "دفاتر الشعر النقدية" أن شعر حمودان يذكرنا بسان جان بيرس، فهما – حسب سولاتج -يتقاسمان بالفعل نفس الإيقاع النيزكي ونفس الاستحضار للأساطير والعناصر الطبيعية وإن كان شعر حمودان آنيا و ملموسا أكثر، حِسيّا و إيروتيكيا. إنه " شعر ملتهب وريث الإندفاعات الكبرى كأغاني مالدورور حيث الحرب تحرق الكلمة و تبعثها من جديد، حيث الروح ترفض الإستنساخ."، يؤكد من جانبه الناقد جاك استيرشي.

غيرأنه، رغم هذه المقارنات، تبقى لشعر حمودان نبرته ولغته الخاصة، كما سيلاحظ ذلك نقاد آخرون:" يتمظهر شعر حمودان- كما تقول الباحثة يمنى عبد القادر- بتفرده وبرفضه المتباهي للقواعد التي يدمرها، سواء تلك المتعلقة باللغة الشعرية أو تلك التي ترتبط بالتصورات الإيديولوجية التي تنبني عليها مجمل العقائد السائدة. الشئ نفسه يشير إليه الباحث و الناقد سلطاني برنوصي، حيث يكتب: "يمنح الإختلاف في شعر حمودان لنفسه نسيجا قويا له وقع عنف لا لبس فيه، من خلال تراكيب و صور تتحدى القواعد و القوانين."

في بداية عهده بالحياة الفرنسية سيعاني من كل ما يعانيه مهاجر حالم يعيش سنواته الأولى تجربة سينعتها ب "التمزق العنيف"، و روايته المهمة "فرنش دريم/ الحلم الفرنسي" التي حظيت باهتمام كبير، تحكي عن هذه التجربة، فبطل الرواية شاب مغربي يحلم بالوصول إلى باريس (مدينة الأنوار) و سيرشي موظفا في مصلحة الجوازات كي يمنحه التأشيرة، لكن ما إن يصل فعلا إلى باريس حتى يجد أن أنوارها التي تراءت له من داخل بلاده كانت مجرد أوهام، فالمدينة ليست الجنة الموعودة التي كان يحلم بها. و لا نعرف فعلا إن كان هذا هو قدر جميع المهاجرين، أم أن الأمر يتعلق فقط بحظ سيء لبطل الرواية.

سأت حمودان عن حضور الأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية في المشهد الثقافي الفرنسي اليوم، هل ينظر إليه كأدب من درجة ثانية؟

فكان رده بالنفي: "لا أعتقد أن هناك أدبا من الدرجة الأولى و آخر من الدرجة الثانية ولو افترضنا جدلا أنه ينظر إليه كذلك. هناك أعمال تافهة قد تصدر عن كاتب فرنسي كما عن كاتب مغاربي و أخرى جميلة و خلاقة. ثم ماهي المعايير التي يُستند عليها لإطلاق مثل هذا الحكم؟ حجم دار النشر؟ رقم المبيعات؟ احتفاء النقاد؟"

هناك كتاب مغاربيون –حسب حمودان- شأنهم شأن بعض الكتاب الفرنسيين ينشرون أعمالهم في كبريات دور النشر الفرنسية وتحتفي بها أهم الجرائد ويحققون مبيعات خيالية بعض الأحيان. إلا أنك قد تجد وسط هذا الكم أعمالا لا تستحق أن ننعتها بالأدبية، أعمالا لاروح لها، تنقصها الصرامة و قوة الخيال والجمال. "على كل حال، ما يهمني شخصيا هو نوعية العمل وجودته وليس جنسية أو انتماء الكاتب لهذه الجغرافية أو تلك ولا حتى اللغة التي يكتب بها".

خلق توتر

الحلم الفرنسي" أو "الكابوس الفرنسي" كما سيسميها روبر فيردوسن بصحيفة "بلجيكا الحرة" هي بمثابة "البورتريه الذاتي الأكثر جذرية في الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية" حسب وصف دقيق لسليم الجاي الذي يرى في هذا العمل تقاطعا مع "أيام هادئة في كليشي" لهنري ميلر. ففي هذه الرواية و في غيرها من أعماله يلجأ حمودان إلى السخرية السوداء كوسيلة للتعبير عن مسار وتجربة شاب مغربي بين بلده الأصلي وبين بلد الإستقبال، و يختار الكتابة بلغة يصفها الكثيرون بأنها عنيفة و متوحشة. ويبدو أن العنف في نصوصه الروائية و الشعرية ـــ رغم رفضه لهذا الطرح ـــ هو بمثابة رد فعل على عنف آخر يوجد في العالم الخارجي. كأن وظيفة الأدب لدى صاحبه هي الاحتجاج من داخل الكتابة على الظلم الذي يعتمل في الخارج.

بالفعل، حين سألته إن كان العمل الأدبي لديه هو محاولة للتخفيف من حدة الظلم و الحيف الذي يتعرض له الكائن أجاب بأنه يعتمد العنف والسخرية السوداء في الكثير من نصوصه، سواء الشعرية أو الروائية، كاستراتيجية في الكتابة من أجل خلق توتر يصعق القارئ، يستفزه وقد يحرك داخله كثيرا من الأشياء الراكدة. فهذا العنف، على مستوى المعجم والصورة، يجعل النص محموما ومتحركا وكأنه شظايا تتطاير أو طلقات نارية قد تصيب القارئ وترديه قتيلا. فالنصوص تقتات من العنف الموضوعي، عنف العالم، الذي يتخد وجوها عديدة و تناوله أدبيا ليس من أجل إعادة إنتاجه كما هو بل لتحويله إلى مادة جمالية وفنية.

إذن فهذا العنف – يضيف حمودان- الذي يخلق رجات وهزات داخل النص وربما خارجه أيضا لا يمكن أن يكون، فيما يخصني على الأقل، مجرد ردة فعل وإلا فالنصوص ستتخد طابع منشور سياسي أو خطاب مباشر وفج. من جهة ثانية، العنف كما السخرية يمكناني من تحويل اتجاه الخطابات السائدة، السياسية والدينية وحتى تلك التي تتعلق بالفن، وذلك من خلال تفجير أسسها الإيديولوجية وبالتالي إنتاج نصوص لا تخضع لأية قواعد أو قوانين.

روايات حمودان إذن لا تجامل الفرنسيين و لا تقدم لهم بالضرورة النص الذي ينتظرونه مبطنا بالسحر الشرقي و محكيات ألف ليلة وليلة مهادنا و مشبعا بالصور الفلكلورية التي صارت متداولة و مبتذلة أيضا، إنه يكتب أدبا يحطم التماثيل و يقطع مع الرموز" كما وصفه الناقد عبد الله بايضا.

حياة أو موت

سألت صاحب رواية "الحلم الفرنسي" و "السماء، الحسن الثاني و ماما فرنسا" ، هذه "الرواية الجريئة، المجنونة والشديدة الحساسية"، هذه "الحفنة من الجمر" كما كتبا عنها الروائيان الناقدان جيلالي بن الشيخ و سليم جاي، سألته عن سر هذا الاختيار الصعب في زمن يبحث فيه الكاتب العربي داخل فرنسا عن نوع من الحضور و الرواج الأدبي فكان رده شبيها تماما بكتاباته:

"أنا أرفض أن ألعب دور الـعربي المؤدب الذي يتغني طول النهار بـ(قيم الغرب الحضارية)، ب(الديمقراطية و الحداثة) في وجه هذا الشرق (المتخلف و المظلم)، فهناك العديد من الكتاب المغاربة وغيرهم ممن يكتبون بالفرنسية يقومون بذلك باحترافية مدهشة، فهم يتقنون ركوب موجات الموضى والإستجابة لما تنتظره منهم المؤسسة وبعض القراء! في آخرالمطاف، يبقى هذا شأنهم وليس شأني".

يضيف حمودان بخصوص استراتيجية الكتابة: "أنا لا أكتب تحت الطلب كما لا أومن بالمدن الفاضلة، مدن الأنوار إلى غير ذلك من النعوت اللامعة والبراقة. أنتقد فرنسا من خلال التهجم على زيف خطابات طبقتها السياسية وبعض مثقفيها الإنسانويين والأبويين الذين ينظرون إلى الـ (غرباء) بتعال و احتقار".

يختم فرانش دريم على هذا النحو: "كلّما كنت أتقدم في ليل جولو البارد والمقفر، كان الصوت الذي رافقني طوال الرواية يلحّ عليّ أكثر فأكثر، بل يهدّدني ويطالبني بأن أصمت وأقدم هذه الصفحات قرباناً للنار. غير أن تحبيرها بالنسبة إليّ، كان مسألة حياة أو موت. مسألة حياة على الخصوص".

إنها حياة بين ضفتين، أو بتعبير الكاتب محمد حسن زوزي الشابي الثراء الناجم عن التقاء عالمين، الثراء الذي يحرره محمد حمودان من الصور النمطية، من الكليشيهات ومن الكاريكاتورات الأخرى المعهودة عن المهاجرين كي ينشر علاماته دون أن ينساق إلى الإستعراض الثقافي المجامل.

عن موقع هسبريس

Google+ Google+