يظل الإهتمام بالتراث والمخطوطات العربية والإسلامية في سويسرا ضعيفا نسبيا، وليس هناك ما يكفي من المعارض والمتاحف المتخصصة في هذا المجال في بلد يُعرف عن سكانه ولعهم بالثقافات والحضارات القديمة كالحضارة الفرعونية، والإفريقية، والهندية، وغيرها.
قد يعود هذا إلى كون الثقافة العربية والإسلامية حديثة إلى حد ما مقارنة بالثقافات الإنسانية الأخرى والحضارات القديمة، أو إلى التوتّر الذي يطفو على السطح من حين لآخر بين هذه الثقافة والثقافة الغربية، فضلا عن الإرث الإستعماري الذي لا يزال يُلقي بظلاله على هذه العلاقة.
هذا القصور على المستوى المؤسساتي، لم يمنع ماكس فان برشم، العالم السويسري المتخصّص في دراسة التراث المعماري وفنون الخط، والفسيفساء، والذي عاش بين (1863 -1921) من تخصيص مجمل حياته لدراسة الفنون الإسلامية والعمل على تدوينها وحفظها من الضياع والنسيان.
واليوم تواصل مؤسسة ثقافية أسستها إبنته ماغريت سنة 1973 وتحمل إسمه، ومن مقرّها بجنيف، أداء الرسالة التي نذر فان برشم حياته من أجلها والتي تُجملها أنطوانات هارّي، المسؤولة الأولى اليوم عن إدارة مؤسسة "ماكس فان برشم"، وهي نفسها عالمة أركيولوجيا في حديث إلى swissinfo.ch في "إنقاذ النقوش والكتابات والفسيفساء الموجودة على البنايات ودور العبادة والقصور في البلدان الإسلامية خوفا من اندثارها، والقيام بحفريات أركيولوجية حول الآثار الإسلامية خدمة للمعرفة والدراسات العلمية".
وعن أهميّة هذا العمل وأبعاده التاريخية، تقول السيدة هارّي: "تصوّرنا لوقت طويل أن العلاقة التي كانت تربط بين البلاد الإسلامية وبيزنطة كان طابعها الأساسي الصدام والحروب المقدسة، ولكننا بمرور الوقت وتقدم الأبحاث الأركيولوجية في العديد من البلدان العربية والإسلامية عثرنا على أدلّة تؤكّد وجود أشكال مختلفة من التبادل الثقافي والتجاري بين الحضارتيْن. وبفضل البحوث التي نرعاها ونموّلها في أكثر من مكان، نُثري المعرفة البشرية ونضيف إليها الجديد كل يوم".
عمل متواصل عبر الأجيال
البداية كانت مع الأب المؤسس، ماكس فان برشم، وهو عالم سويسري، حلّ بسوريا ولم يتجاوز سنه العشرين عاما، وتفطّن مبكّرا لأخطار الإندثار التي كانت تتهدد الكتابات والأشكال الفنية التي كانت تزيّن المعالم الأثرية في البلدان الإسلامية، سواء كانت تلك الآثار مساجد أو قبورأ أو حصونا أو جسورا، فقام بتصويرها، ودراسة القطع الأثرية، ونشر دراسات بشكل دوري عنها مما سمح بتكوين أرضية صلبة لما بات يسمى "الإيبوغرافيا الإسلامية". وقد تعاون في دراسته للآثار الإسلامية بالقاهرة ودمشق والقدس مع العديد من البحاثة الالمان والنمساويين والفرنسيين.
بعد وفاته، حملت ماغريت، الإبنة الكبرى لفان برشم مشعل دراسة الكتابات والآثار الإسلامية فأنجزت العديد من الدراسات والبحوث حول الأشكال الفسيفسائية الموجودة على قبّة الصخرة بالقدس الشريف، وبالمسجد الأموي الكبير بدمشق.
وبعد مغادرتها لبلاد الشام، انشغلت بإجراء العديد من الحفريات الأركيولوجية بحقل سيدراته، بمنطقة المزاب بالصحراء الجزائرية (ولاية ورقلة). وتخليدا لذكرى والدها بعد عودتها إلى سويسرا، أنشأت سنة 1973 مؤسسة "ماكس فان برشم"، وجعلت هدفها الأوّل والأخير "تشجيع الدراسات الأركيولوجية والتاريخية والإيبوغرافيا الإسلامية والعربية".
بعد وفاة مارغريت، قطعت المؤسسة خطوة أخرى إلى الأمام ووسّعت من برامجها واهتماماتها خاصة بعد أن أصبحت بحوزتها إمكانات مالية هامة وبعد إنشائها لمجلس علمي يتشكل من خبراء وباحثين في فنون المعمار والمخطوطات الإسلامية، من جنسيات مختلفة سويسرية وأوروبية وأمريكية.
يجتمع هذا المجلس العلمي كل سنة للنظر في طلبات التمويل التي يتقدّم بها الباحثون إلى المؤسسة، ويرسمون الأولويات. وبالتوازي مع ذلك، يوجد مجلس إدارة يتشكّل بالتناصف من أعضاء يتنمون إلى عائلة فان برشم الموسعة، وشخصيات عامة مقيمة بجنيف، ويسهر على تصريف شؤون المؤسسة الإدارية والمالية.
للعالم العربي نصيب الأسد
مبكرا، ومنذ الثمانينات من القرن العشرين، رصدت مؤسسة "ماكس فان برشم" جزءً كبيرا من ميزانيتها لبعثة التنقيب عن الآثار في منطقتي "أم الرأس" و"أم الوليد" بالمملكة الأردنية. أما الهدف الأساسي لتلك البعثة فيتمثل في التعرّف على المراحل التي قطعتها عملية أسلمة تلك المنطقة التي استقرت فيها الديانة المسيحية لقرون طويلة.
تجدر الإشارة إلى أن موضوع الأسلمة نادرا ما تمت مقاربته أركيولوجيا، وما من شك في أن التحليل التاريخي للآثار التي تم العثور عليها سيمكّن من فهم أفضل للتغيرات الدينية والثقافية التي مرّت بها تلك المنطقة. وقد قاد هذه البعثة سنة 1988 الباحثان السويسريان جاك بوجار، وأندري هالديمان، تحت إشراف شارل بوني.
وفي عام 2009، وبتكليف وتمويل من مؤسسة "ماكس فان برشم"، تكفّلت الباحثة كاتيا سيترين سيلفيرمان بالتنقيب عن آثار المسجد المركزي والبنايات المحيطة به بوسط مدينة طبريا، الواقعة على شاطئ الجليل، والتي تأسست في العام العشرين بعد ميلاد المسيح.
هذا المسجد المركزي الذي كان يعتبره المؤرخون حتى عام 2006 سوقا عامة من بقايا التاريخ البيزنطي، يُعتقد الآن أنه بني في عهد الدولة الأموية في القرن الثامن الميلادي، وهي فرضية أثبتتها الحفريات التي قامت بها سيلفرمان. وقد تم حتى الآن استكشاف عشر مواقع مختلفة المساحات. وتم تصحيح المعلومات التي كانت متداولة حول هذا الموقع حتى عهد قريب.
في المغرب الإسلامي، رعت هذه المؤسسة مشروعا للتنقيب عن الآثار في منطقة سدراته الصحراوية الواقعة على بعد 14 كيلومتر جنوب مدينة ورقلة الجزائرية. وسدراته منخفض تحيط به جبال كور، ويذكر المؤرخون أن الرستميّين المعتنقين للمذهب الإباضي فرّوا إليها في القرون الوسطى من عاصمتهم تاهرت بعد تعرّضها للنهب والتخريب من طرف الفاطميين سنة 909. واليوم، لا زالت هذه المدينة مدفونة تحت الكثبان الرملية بإستثناء بعض المعالم البادية للعيان هنا وهناك.
تتأتى الأهمية التاريخية لهذه المنطقة من كونها شهدت مرحلة ازدهار، وتأسس حولها ما يزيد عن مائة مجمّع حضري، كما أنها واحدة من أكبر الواحات في جنوب الجزائر، فضلا عن أنها كانت منطقة تقاطع للحركة التجارية، كتجارة الذهب والرقيق بين شمال الصحراء الكبرى وجنوبها. وقد هدفت الجهود التي بذلها كل من سيريل إيلات (الباحث بجامعة ليون 2 الفرنسية)، و باتريس كرسييه وصوفي جيلوت (من المركز الوطني للبحوث العلمية بفرنسا) في عام 2011 بالأساس إلى فهم التوزّع البشري وطرق استغلال الفضاء وتنظيمه في هذه المنطقة ضمن فهم أشمل للعمران البشري في وادي مايا بولاية ورقلة ككل.
الآثار الإسلامية في الصين
في عام 1985، وافقت مؤسسة "ماكس فان برشم" على رعاية وتمويل مشروع تقدّم به باحث صيني، ويتمثّل في وضع فهرسة للنقوش والكتابة العربية في الصين.
هذه الكتابات منقوشة على الحجر، والاكثر قدما منها مكتوبة باللغّتيْن العربية والفارسية، اما الأكثر حداثة، فباللغة الصينية. أما النقوش التي توجد إلى حد اليوم على المساجد فجلّها باللغة المحلية. الإحاطة والاطلاع على هذه الكتابات ساعد على فهم بعض الحقائق التاريخية التي ظلت عالقة: فعلى سبيل المثال، الغالبية من هذه الآثار يعود تاريخها إلى القرنيْن الثالث عشر والرابع عشر ميلادي، الفترة التي حكمت فيها عائلة إييان Yuan ما يسمح بالتأكيد على ان المسلمين قد استقروا بأعداد كبيرة على السواحل الجنوبية الشرقية للصين في تلك الفترة.
ومع قيام حكم عائلة مينغ أواخر القرن الرابع عشر، واعتمادها لتدابير مناهضة للاجانب، اضطرّ المسلمون إلى الهجرة إلى بلدان جنوب شرق آسيا أو إلى بلدان الشرق الأوسط، ما أدّى إلى التوقّف الكامل للتجارة تقريبا بين الشرق والغرب. أما المسلمون الذين مكثوا هناك، فقد اندمجوا إلى حد كبير في الثقافة المحلية بإستثناء بعض الخصائص الإسلامية التي استمرت من خلال عمليات الدفن أو كتابة بعض الآيات القرآنية على القبور. وقد صدرت مؤلفات عدة حول نتائج هذه الأعمال، وترجم عدد منها إلى لغات أوروبية.
قاعدة بيانات إلكترونية متاحة للجميع
هذه الأعمال والبحوث الممتدة على مدى قرن من الزمن تقريبا (إذا انطلقنا من الأعمال الأولى لماكس فان برشم) أدت إلى توفّر كمّ هائل من الصور والكتابات والنقوش والرسومات حول الفنون الإسلامية، بعضها تم نشره في كتب مبوبة موضوعيا وبحسب المناطق واللغات، وبقي الكثير منها مخزّنا بعيدا عن أنظار الباحثين.
مع بداية التسعينات، وفي ظل تطوّر أدوات الإتصال وظهور الحاسوب والإنترنت، فتح الباب لإطلاق مشروع "قاعدة البيانات الإلكترونية"، على يد كل من البروفسور لودفيك كالوش، والدكتورة فريديريك سودان. وتقول أنطوانات هارّي: "بدأنا في بداية التسعينات إعداد قاعدة بيانات شاملة لجميع الكتابات والنقوش والمخطوطات الإسلامية بجميع لغات الحضارة الإسلامية، وبفضل النسخ الإلكترونية المتاحة اليوم، أصبح بإمكاننا استخدامها بسهولة، وتصحيح ما يتطلب التصحيح، كما يمكننا إعادة تبويبها سواء بحسب البلدان، أو بحسب الفترات التاريخية أو بحسب اللغات".
واليوم بإمكان أي زائر للموقع الألكتروني لمؤسسة "ماكس فان برشم" الولوج إلى قاعدة البيانات بمجرد تسجيل الدخول، مما يتيح له الإطلاع مجانا على مخطوطات وصور ونصوص تغطي فضلا عن منطقة المغرب العربي والشرق الأوسط، بلدانا ومناطق شاسعة في جنوب شرق آسيا وفي الصين، وبورما، وبروناي، ومنغوليا، والفلبين، وتايلند وفيتنام.
وفي الوقت الحاضر، وصل عدد الرسوم والصور والنصوص التي تحتويها قاعدة البيانات إلى 22.779 وثيقة تتعلّق بالآثار الإسلامية في 46 بلدا، بالإضافة إلى 6000 كليشيه صورة.
هذا العمل التوثيقي، وهذا الدعم والتشجيع يتواصل وبأشكال متعددة. ففي كل سنة، يجتمع المجلس العلمي لمؤسسة "ماكس فان برشم" لدراسة المشروعات المقترحة عليه، فيقرّر دعم بعضها، ويُوصي ببعض المشروعات الجديدة، ويصوّب البعض الآخر منها، كما تنشر المؤسسة دوريا تقارير عن أنشطتها وتبعث بإرساليات إعلامية إلى مشتركيها.
24-10-2012
المصدر/ سويس أنفو